إن كانت العقيدة اليهودية تقوم على الاساطير التاريخية فقد دعمها الفكر الصهيوني برصيد تأريخي محرك وبتواقيت محفزة فلا يمكن أن تقوم فكرة قومية مغرقة في الاسطورية كاليهودية دون رصيد من المثيولوجيا التأريخية التي لا يهم أن تصمد أمام حقائق التاريخ أو أدوات البحث العلمي، و من هذه المداميك الأولية للفكر الصهيوني كان الهيكل المزعوم ومنه كان التحرك نحو فاجعة إحراق المسجد الأقصى بالقدس، فحين خطط الاسرائيليون لجريمة حرق الاقصى المبارك يوم 21 أغسطس/ آب 1968، اختاروا التاريخ بدقة ليتزامن مع تاريخ تدمير هيكلهم المزعوم، واوكل تنفيذ المهمة لليهودي الاسترالي دنيس روهان، ولكن حراس الاقصى اكتشفوا الجريمة قبل وقوعها، والقي القبض على روهانس وحوكم محاكمة صورية وابعد الى استراليا، ليعود ثانية بعد عام كامل ولينفذ جريمته في التوقيت ذاته و بتاريخ 21أغسطس/ آب 1969.
في ذلك اليوم شب الحريق بعد أن أدى المسلمون صلاة الفجر في المسجد الاقصى المبارك وفرغ المكان من المصلين ، وكان في ثلاثة مواضع:
الأول: في مسجد عمر الواقع في الزاوية الجنوبية الشرقية للاقصى والذي كان يرمز الى المسجد الاول الذي بناه عمر بن الخطاب عندما استلم مفاتيح القدس من بطريرك البيزنطيين صفرونيوس الدمشقي، ثم هدمت الزلازل ذلك المسجد قبل عهد الخليفة عبد الملك بن مروان الذي بنى مكانه مسجداً جديداً اكتمل سنة 692م.
الثاني: في منبر صلاح الدين الايوبي والمحراب، بهدف حرق عنوان النصر الذي احرزه القائد صلاح الدين الايوبي عندما حرر القدس من الصليبيين سنة 1187م.
الثالث: في النافذة العلوية الواقعة في الزاوية الجنوبية الغربية من المسجد الاقصى وترتفع عن ارضية المسجد حوالي عشرة امتار ويصعب الوصول اليها من الداخل بدون استعمال سلم عال، الأمر الذي لم يكن متوفرا لدى دنيس روهان. وكان حريق هذه النافذة من الخارج وليس من الداخل، مما يدل على أن هناك أفراداً آخرين ساعدوا روهان من الجهة الغربية في الخارج حيث كانت تحت اشراف الاسرائيليين بعد ان هدموا حارة المغاربة وسيطروا على بوابة المغاربة.
كان الجناة يعتقدون أن الحريق في المواقع الثلاثة سوف يتصل بعضه مع بعض ويدمر الواجهة الجنوبية للمسجد كليا، ومن ثم يمتد شمالا ليأتي على جميع المسجد. الا أن خططهم لم تنجح تماما، لان النار في خارج النافذة العلوية قد انطفأت بذاتها بسبب أن مادة النافذة حجرية والجدار الجنوبي من الغرب الى الوسط كله من الحجر. ولذلك لم يحترق وسط الواجهة الجنوبية والجهة الشرقية، ثم امتدت النار شمالا وحرقت ما مساحته حوالي 1500 متر مربع من أصل مجموع مساحة مبنى المسجد الاقصى البالغة 4400 متر مربع، أي حوالي ثلث المسجد.
ولم يغب عن الاسرائيليين في بلدية القدس قطع الماء عن الاقصى لاحباط أي محاولات لإطفاء الحريق ، وحرصت سيارات الاطفاء الاسرائيلية التابعة لبلدية القدس على الحضور متأخرة بعد أن أطفأ الأهالي المقدسيون النيران بمساعدة سيارات الاطفاء العربية التي وصلت من الخليل ورام الله.
لقد تم توثيق عملية الاطفاء التي قام بها الشباب المقدسيون الذين استعانوا بالبراميل ونقلوا المياه يدويا من الآبار الموجودة في ساحات الحرم القدسي الشريف واخرجوا السجاد المحترق الى الساحات الخارجية، وجميع القطع الصغيرة التي بقيت من الحريق من آثار منبر صلاح الدين الايوبي، وهي محفوظة الآن في المتحف الإسلامي في الحرم القدسي الشريف.
وكانت الخسارة التاريخية التي تكبدها الأقصى فادحة حيث احترق منبر صلاح الدين الايوبي الذي يعتبر قطعة نادرة مصنوعة من قطع خشبية معشق بعضها مع بعض دون استعمال مسامير او براغي او اية مادة لاصقة. وكان يرمز الى انتصار القائد صلاح الدين ودخوله القدس، وكان هذا المنبر قد صنعه نور الدين زنكي وحفظه في مكان اسمه الحلوية في حلب الشهباء في سوريا ونقله صلاح الدين الى القدس في عام 1187م.
كما احترق مسجد عمر الذي كان سقفه من الطين والجسور الخشبية، ويمثل ذكرى دخول عمر بن الخطاب وفتح القدس، و محراب زكريا المجاور لمسجد عمر، و احترق كذلك مقام الاربعين المجاور لمحراب زكريا، بالاضافة الى ثلاثة اروقة من اصل سبعة اروقة ممتدة من الجنوب الى الشمال مع الاعمدة والاقواس والزخرفة وجزء من السقف الذي سقط على الأرض خلال الحريق، و أتت النار على عمودين رئيسيين مع القوس الحجري الكبير بينهما تحت قبة المسجد، و على القبة الخشبية الداخلية وزخرفتها الجصية الملونة والمذهبة مع جميع الكتابات والنقوش النباتية والهندسية عليها، و على المحراب الرخامي الملون، والجدار الجنوبي وجميع التصفيح الرخامي الملون عليها.
و احترقت ثمان واربعون نافذة مصنوعة من الخشب والجص والزجاج الملون والفريدة بصناعتها واسلوب الحفر المائل على الجص لمنع دخول الاشعة المباشر الى داخل المسجد، وجميع السجاد العجمي، ومطلع سورة الاسراء المصنوع من الفسيفساء المذهبة فوق المحراب ويمتد بطول ثلاثة وعشرين مترا الى الجهة الشرقية، بالاضافة الى احتراق الجسور الخشبية المزخرفة الحاملة للقناديل والممتدة بين تيجان الاعمدة.
أمام فداحة الأمر قامت لجنة إعمار المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة بتصوير هذه الجريمة البشعة والاحتفاظ بالاثباتات المادية لعملية الاحراق.
وتنادت الدول العربية والاسلامية الى ازالة آثار الحريق، حيث قامت اللجنة بإجراء دراسات تاريخية واثرية وهندسية قبل القيام باي ترميم ولذلك اعيد تشكيل لجنة الاعمار وتم تشكيل فريق فني متكامل بدأ عمله في مطلع عام 1970 باعداد مخططات إعادة الإعمار. وتقرر القيام بالترميم مباشرة عن طريق جهاز الاعمار لضمان الجودة والاتقان والحفاظ على الاصول الاثرية والتاريخية والفنية. واهتمت لجنة الاعمار بالتنسيق في عملها مع اليونسكو ومؤسسة ايكروم الايطالية المختصة بترميم التراث، وخبراء فنيين من بلجيكا واستفادت من آراء الخبراء الاجانب الذين ساهموا في الدراسات الاثرية والفنية. وهذا كله ادى الى حصول لجنة الاعمار على جائزة الاغاخان العلمية بعد ان اكتمل ترميم المسجد الاقصى، وبتنسيب نفس لجنة الاغاخان ، وحولت لجنة الاعمار قيمة هذه الجائزة الى موازنة الاعمار.
بدأ جهاز الاعمار الفني بالحفريات الى ان وصل إلي الطبقة الصخرية على عمق حوالي تسعة امتار تحت ارضية المسجد الاقصى المبارك. وقد شاهد الاسرائيليون ان هذه الحفريات لم يظهر فيها أي اثر مزعوم للهيكل، وتم اعادة انشاء الجزء المحترق والمهدوم باستعمال الخرسانة المسلحة في القواعد والاعمدة والاسقف. وخلال عملية الحفريات تم اكتشاف خندق يصل من وسط السور الجنوبي الى داخل المسجد الاقصى. وكان قد حفره الاسرائيليون سراً قبل احراق المسجد الاقصى من الجهة التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي بهدف التفتيش على آثار الهيكل.
اما زعيم العصابة التي نفذت الحريق دنيس روهان فقد حكمت عليه السلطات الاسرائيلية بالجنون وبالنفي الى بلاده استراليا، ولم تسجنه ولم تعاقبه بأي شيء آخر، اما باقي العصابة التي ساعدت روهان من الخارج ، واخرجته بعد الحريق وحافظت عليه من غضب الاهالي المقدسيين، فبقيت مجهولة حتى اليوم .
كاتب من اسرة تحرير «الوسط
العدد -2 - الإثنين 19 أغسطس 2002م الموافق 10 جمادى الآخرة 1423هـ