العدد 4662 - الجمعة 12 يونيو 2015م الموافق 25 شعبان 1436هـ

الهجرة نحو المركز: المركزية ونشأة الأسواق التخصصية

قرية أو حي الصفافير على شارع عذاري (بشمي2000)
قرية أو حي الصفافير على شارع عذاري (بشمي2000)

منذ فجر التاريخ، وعلى مر العصور، تكونت على جزر البحرين عدة حضارات، وتميزت عدد من المناطق، كموقع قلعة البحرين ما حولها، كونها الموقع المركز الذي يضم الأبنية الإدارية وموقع التبادل التجاري، وخصوصاً، مع الجهات الخارجية. وهذا يعني، أن الحضارة ليست طارئة على المجتمع البحريني. فعلى سبيل المثال، لا يعتبر ظهور مدينة المنامة، العاصمة الحالية، حالة استثنائية في البحرين، بوصفها المدينة المركزية، بل هي استمرارية لنظام معين، وتكرار لنموذج كان سائداً في البحرين القديمة عبر العصور. أي أن هناك عدة نماذج لتكون مركزية تعاقبت في البحرين عبر الحقب التاريخية، ولكل نموذج خصوصية معينة، ولكن هناك عناصر مشتركة بين تلك النماذج. ويبقى السؤال، أين هي تلك النماذج؟

للتعرف على هذه النماذج، نحتاج لمراجعة كل نتائج الدراسات الآثارية التي تخص البحرين، ومطابقتها مع ما تم توثيقه من تاريخ سردي. ولا يمكننا، بأي حال من الأحوال، اعتماد المصادر التاريخية السردية فقط، ومن يفعل ذلك يخرج بنتائج قد لا تتطابق مع الواقع التاريخي الذي يرجحه الآثاريون. على سبيل المثال، Fuccaro، في كتابها عن تاريخ المنامة تتبعت المصادر التاريخية للبحث عن المركزيات التي نشأت في البحرين، فوثقت روايات تشير إلى أن البلاد القديم كانت في السابق المنطقة المركزية، وأطلقت عليها، في كتابها، مسمى عاصمة البحرين في الحقبة الصفوية (Fuccaro 2009، p. 18). وأشارت، إلى أن هذه العاصمة تتمركز في الريف الذي قوامه البحارنة المزارعين، وهو وسط مغاير للوسط الحضري الذي تم استحداثه عن طريق بناء المدن والذي بدأ منذ القرن التاسع عشر الميلادي (Fuccaro 2009، pp. 24-31).

كذلك، ترى Fuccaro، أن المنامة نشأت بسبب هجرة جماعات عرقية مختلفة، ومن طبقات مختلفة (Fuccaro 2009 ،p. 28). وبدأت هذه الجماعات تمارس المهن التجارية المختلفة، وبدأ نشاطها يتمركز حول المباني الإدارية التي أنشأت في المنامة في بداية القرن التاسع عشر. وأخذت تلك المحلات بالتطور لتتحول إلى عددٍ من الأسواق التخصصية. ومن الأسواق التي اشتهرت منذ القدم، ولها ذكر منذ القرن التاسع عشر، هي سوق الطواويش (أي سوق بيع اللؤلؤ)، وكان بالقرب من هذه السوق محلات متخصصة في ثقب اللؤلؤ (عملية الخراق). كذلك اشتهرت تلك الأسواق المتخصصة في الحرف المحلية والتي، وإن لم يعد لها وجود، فإن أسماءها ارتبطت بأسماء الأماكن، كسوق الحدادة وسوق الحطب الذي تباع فيه سعف النخيل وغيرها، وأماكن هذه الأسواق مازالت تعرف بهذه الأسماء (Fuccaro 2009 ،pp. 84-85).

المركزية والنموذج المستنسخ

على رغم أن دراسة Fuccaro ظهرت في العام 2009م، بعد أن تم نشر العديد من نتائج الدراسات الآثارية والتي تمكننا نتائجها من وضع نظرية حول تطور مدن مركزية أو مراكز تجارية متطورة نشأت في حقب سابقة لنشأة المنامة، وأن نظام المدن المركزية كان له وجود عريق في البحرين؛ بمعنى، أن النموذج الذي رسمته Fuccaro لنشوء سوق تجارية متنوعة حول المراكز الإدارية في الدولة ليس بالجديد على سكان البحرين، وهناك العديد من الدلائل التي ترجح ذلك. حيث تشير نتائج التنقيب الآثارية، للبعثة البريطانية (Insoll 2005)، والتي أجريت في المناطق المحيطة بمسجد الخميس، إلى وجود مدينة مركزية نشأت في هذا الموقع منذ القرن التاسع الميلادي. وتشير النتائج كذلك لوجود تعدد وتنوع في الحرف والمهن والصناعات التي ظهرت في هذه المدينة القديمة، منذ القرن التاسع الميلادي، ما يرجح أن هذه المدينة ربما كانت عاصمة البحرين في تلك الحقبة. كذلك، فإن صحت الترجيحات حول بناء مسجد في موقع مسجد الخميس الحالي، وذلك في القرن الحادي عشر الميلادي (راجع كتابنا مسجد الخميس لمزيد من التفاصيل)، فهذا يعني استمرارية هذه المدينة في كونها المدينة المركز، وربما كانت هناك هجرة للعديد من الأيدي العاملة لها؛ ما أدى لنشأة طبقات تخصصية مختلفة من التجار والعمال، وهذا ما تؤكد عليه نتائج التنقيبات في هذا الموقع وما حوله.

كذلك فإن نتائج التنقيب الآثارية، لبعثات التنقيب البريطانية (Insoll 2005)، والدنماركية (Frifelt 2001)، والفرنسية (Kervran et. al. 2005)، ترجح أنه بنهاية القرن الثاني عشر ظهرت مدينة مركزية تجارية جديدة، وذلك في المنطقة المحصورة ما بين ساحل منطقة القلعة والحدود الجنوبية لقرية حلة العبد الصالح. وتؤكد نتائج البعثة البريطانية وجود هجرات من المنطقة المركزية القديمة للمدينة الجديدة، إلا أن قلة الدراسات الآثارية في هذه المواقع لا تعطينا صورة واضحة عن نموذج المدينة المركزية التي استقطبت الأيدي العاملة وكيفية تكون سوق مركزية متنوعة فيها.

البلد القديم والأحياء التخصصية

لم تستمر المدينة الجديدة، التي بنيت في موقع القلعة، فترة طويلة، فسرعان ما تحول موقعها لميدان للحروب الطاحنة؛ فقد هُجرت المدينة وبني فوق جزء من أطلالها قلعة، وتحول الموقع لثكنة عسكرية. بالمقابل، بقي مسجد الخميس، في البلد القديم، مركزاً لقاضي القضاة، وبقيت المنطقة تستقطب المهاجرين من شتى الطبقات، رجال الدين، والتجار والعمال. ومثل هذا الالتفاف حول المركز يؤدي لقيام الأسواق المركزية المتخصصة والتي تحيط بالمركز. ربما لا نمتلك آثاراً واضحة على وجود تلك الأسواق، ولكن عندما نستقرئ أسماء المناطق التي تحيط بالمنطقة التي بها مسجد الخميس، يمكننا أن نجد أسماء لأحياء تخصصية في مهن معينة.

يذكر، أن جميع المناطق المحيطة بمسجد الخميس كانت تعمل بصورة تعاونية وكلها كانت تمثل بلدة مركزية، وإن اختلفت المسميات، جدحفص في الشمال، البلاد القديم في الجنوب، البرهامة في الشرق، طشان والمصلى في الغرب. كل منطقة من هذه المناطق تحمل جزءاً من الحضرية، وكلها تكمل بعضها البعض. فمثلما نشأت في المنامة أسواق متخصصة، كانت هناك أحياء متخصصة في هذه المناطق أيضاً، ولكن لم يبقَ منها إلا بعض أسمائها. فلو نظرنا، على سبيل المثال، لأسماء الأحياء في جدحفص، لوجدت أن عدداً منها يدل على التخصصية، مثل المحاسنية (الحلاقين)، والبناية وغيرها. مثل هذه الأحياء ربما كانت منتشرة كأسواق في الماضي لكنها اندثرت ومسحت من الذاكرة الشعبية.

لحسن الحظ، أن هناك مواقع مازالت مشهورة وتدل على وجود أحياء متخصصة كانت منتشرة في المناطق المحيطة بمسجد الخميس، على سبيل المثال، المصلى التي كانت موقع مصلى العيدين، والتي تحولت لاحقاً إلى قرية. وجود عين القصارين، والتي على مدى أكثر من ثمانية قرون كانت موقعاً للقصارين (سنتناولها بالتفصيل في حلقة مستقلة). كذلك، مازال يوجد ذكر لحي قديم يوجد غرب مسجد الخميس، والذي أطلق عليه البعض مسمى قرية، إنه حي الصفافير، الذي لم يعد له وجود. هذا وقد ذكر المبارك في كتابه «حاضر البحرين» قرية الصفافير وقال عنها «صَفَافِير كمصابيح على الشارع الرئيسي المار إلى عوالي غرباً عن الخميس وطشان، وفيها معامل ونخل وزروع، وسميت بذلك لأن فيها محطة تصفير النحاس» (لمبارك 2004، ص41). ولا يعرف موقع هذا الحي بالتحديد إلا أنه كان يقع على شارع عذاري، وكان يمر بالقرب منه ساب عذاري (بشمي 2000، ص 31)

الخلاصة، أن البحرين، ومن زمن بعيد، عرفت المدن المركزية، أو بأقل تقدير، المناطق المركزية التي بها مراكز إدارية للدولة. وحول هذه المراكز، سواء كانت ذات طابع ديني أو سياسي، تكونت أسواق تجارية متنوعة ومتخصصة، وبسبب قلة الاهتمام بالتنقيب في الآثار الإسلامية، فقد ضاع العديد منها، والنتائج المستوحاة من هذه التنقيبات لا تساعد كثيراً في بناء نموذج المدينة المركزية الذي يرجح أنه كان سائداً في الحقب القديمة. غير أن ما تبقى من آثار، ومن أسماء تحمل دلالات، تشير بوضوح لوجود أسواق مركزية متنوعة ومتخصصة تحيط بالمراكز الإدارية في الدولة. وقد تناولنا بعضاً من هذه المسميات، وفي حلقات قادمة سنشير لمسميات ودلائل أخرى.

العدد 4662 - الجمعة 12 يونيو 2015م الموافق 25 شعبان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 2:06 م

      كثروا من تاريخ الاجداد.

      عل وعسا يتذكر المواطن الحالي كيف كانوا اجدادنا متواضعين يشكرون الله في الحلوه والمره .متعايشين كالجسد الواحد لا كلام سياسه ولا طائفيه.الجار كأنه ليس جار بل محسوب كفرد من العائله .غيرته على بنت الجار قبل اخته..

اقرأ ايضاً