العدد 4662 - الجمعة 12 يونيو 2015م الموافق 25 شعبان 1436هـ

«ولدنا سيِّئين» لبويس... كيف لفكرة أننا خُطاة أن تُشكِّل الثقافة الغربية؟

فيبر: «أخلاقيات البروتستانتية» أدَّت إلى الرأسمالية...

جيمس بويس
جيمس بويس

تبرز بين فترة وأخرى مبادرات شجاعة، وتبدو صادمة لدي شريحة ليست بالقليلة - في المجتمع الغربي، تتعلق بالكنيسة، والتعاليم التي مرت بطور من التغيُّرات والتبدُّلات، والجدل بين عدد من القديسين في بعض رؤاهم التي يبدو بعضها صارخاً في تناقضه، بين أوغسطين وبيلاجيوس، على سبيل المثال.

تلك المراجعات، هي التي تمنح الغرب عموماً، قدرته وفضاءه الضروري للبحث عن وضعية الإيمان والمعتقدات التي مرت بأطوار مختلفة في الدين المسيحي، وأثر ذلك الإيمان في اطمئنانه المعقول على علمانية الغرب.

يتم اليوم البحث - من منظور علماني؛ إلى جانب المنظور الديني الكنسي - في مسألة الخطيئة الأصلية، وطبيعة التفكير في هذه المسألة وغيرها من المسائل، وبحسب المؤرخ الأسترالي جيمس بويس «هي قصة الخلق في العالم الغربي»، وهي التي تحدِّد مسارات فكره. كتابه «ولدنا سيئين»، يريد أن يقول وببساطة؛ علاوة على مناقشته للاعتقادات تلك، إن الأفكار التي يتم ترسيخها وتكريسها طوال قرون، هي التي تشكِّل طبيعة الزمن والبشر، وهي بالتالي تشكِّل طبيعة تفكير وإنسان الغرب اليوم، بكل ذلك السخط الذي عُرف به. بكل ما يقترب من التبرير لامتداد الخطايا في عالم اليوم. الخطايا التي تصوغ طبيعة الزمن اليوم، وبالضرورة طبيعة البشر.

تلك العلاقة الجدلية بين الاعتقادات الدينية وأثرها على الأفكار؛ إما حرْفاً للمسارات التي كان من المفترض أن تكون عليها؛ أو تحوُّلها إلى اقتناع ويقين وإيمان لا يجب الاقتراب منه؛ بحكم اللاخيار، وبحكم أن «الخطيئة الأصلية» التي يبحثها بويس باتت قارَّة في الذهن والتفكير الغربي، في مناقشته لها منذ هبوط آدم من الجنة؛ وصولاً إلى مفكري وفلاسفة العصر الحديث نسبياً.

الخطيئة الأصلية

مايكل دريدا، من صحيفة «واشنطن بوست»، كتب مراجعة يوم الأربعاء (20 مايو/ أيار 2015)، استعرض فيها أهم أفكار بويس، كما ربط بعض الأفكار في كتابه ببعض أفكار منظِّرين كبار أمثال آدم سميث وريتشارد دوكينز والقديس أوغسطين، ومارتن لوثر، وجان جاك روسو، وسيغموند فرويد.

تبدو الخطيئة الأصليَّة موضوعاً بعيد الاحتمال والتوقُّع من باحث فخري في كلية الجغرافيا والدراسات البيئية في جامعة ولاية تسمانيا بأستراليا، ومع ذلك كتب جيمس بويس عمله الرائع والمبهج «ولدنا سيئين».

مايكل دريدا قال في مراجعته، إنه وضع بقلم الرصاص خطوطاً على هامش الكتب التي قرأها كلما بدت جملة أو فقرة ملفتة للنظر. نسختي من «وُلدنا سيئين» تحمل هذه «الشخْبطة» على كل صفحة وأخرى.

ثمة هامش هنا يحتاج إلى التذكير به، ذلك المتعلِّق بالخطيئة الأصلية، في كونها عقيدة مسيحية تشير إلى وضع الإنسان الآثم الناتج من هبوط آدم من الجنة. ويتصف هذا الوضع بأشكال عديدة؛ ما يتراوح بين القصور البسيط؛ أو النزعة تجاه الخطيئة بدون الذنب الجماعي (ما يُدعى الطبيعة الخاطئة)، إلى شدَّة الفساد التام من خلال الذنب الجماعي.

يرى دريدا، أن النقطة الرئيسية بالنسبة إلى بويس هي أن العقل الغربي قد تشكَّل أو تشوَّه من قبل الرأي السائد، والذي مفاده أن «البشر ولدوا خُطاة، يخضعون لغضب الله العادل... بسبب ما هم عليه «المعصية البدائية لآدم لم تؤثِّر عليه وحده؛ ذلك شقاء الطبيعة البشرية إلى الأبد في نظر الله. منذ السقوط في المعصية والهبوط إلى الأرض والجميع بالتالي «ولدوا سيئين» وذلك مُهين للخالق في واقع الأمر، وهذا العيب يمكن غسْله فقط من خلال الفضيلة»، «العطيَّة غير المكتسبة من مغفرة الله» في شكل يتضح في المعمودية (وهي طقس مسيحي يمثل دخول الإنسان الحياة المسيحية، وتتمثل في اغتسال المُعمَّد بالماء بطريقة أو بأخرى. ويعتبر سر المعمودية أحد الأسرار السبعة المقدَّسة في الكنيسة الأرثوذكسية والكاثوليكية، وأحد السرِّين المقدَّسين في الكنائس البروتستانتية). لا يمكن لشخص ما، رجلاً كان أو امرأة، ادِّعاء القدرة على إزالة هذه الوصمة الموروثة. تماماً كما هو الحال مع تبعات السعير الاستعماري القديم «في هبوط آدم/ نحن مخطئون جميعاً».

أوغسطين والفساد المتأصِّل في النفس

أسَّس القديس أوغسطين الشرعية الفكرية للاعتقاد بالفساد المتأصِّل في النفس البشرية، على رغم أن بعض المفكِّرين المسيحيين في وقت مبكِّر، مثل بيلاجيوس (تم إعلانه زنديقاً في وقت لاحق)، قالوا خلاف ذلك: الناس أبرياء عند الولادة ولكن يمكن، من خلال الحرية التي أُنعِم عليهم بها من قبل الله، يعمدون إلى اختيار الخطيئة في وقت لاحق. كانت نتيجة الصراع بين اثنتين من هذه المعتقدات المتناقضة، هو مصير الأطفال الذين ماتوا بعد فترة قصيرة من الولادة. بيلاجيوس وكثيرون في وقت مبكِّر من المسيحية الكلتية (في العصور الوسطى) «لم ينظروا إلى الأطفال حديثي الولادة على أنهم خُطاة وبحاجة إلى المغفرة. «لكن أوغسطين وكثيراً من آباء كنائس أخرى، جادلوا بما هو مُروِّع في الاعتقاد بأن الشرَّ البشري باتجاه الله فطري حتى بالنسبة إلى الرُضَّع، يبقى من دون غفران إلا من خلال المعمودية، ومن شأن ذلك أن يحكم عليهم باللعنة.

مع انتشار فكرة لدى الكنيسة في العصور الوسطى، مفادها أن المعمودية وحدها كافية للخلاص، أضيف إليها الاعتراف المتواصل بالخطايا والأسرار، بدعم من عقيدة سيئة السمعة بالتساهل الذي يمكن أن نقف على أوضح تجلياته في صكوك الغفران.

يشير بويس إلى أن الإصلاح في الكنيسة، مع ذلك، يُصرُّ في بعض تجليات نصوصه، على أن الناس يمكن أن يفلتوا من الإدانة إلا من خلال «غفران غير مُكتسب من الله»، والذي يمكن «الوصول إليه عن طريق الإيمان بالمسيح وحده». وانطلاقاً من رؤى وأفكار لوثر وكالفن وغيرهما، لا يمكن للبشر أن يحققوا الخلاص من تلقاء أنفسهم حتى لو كانوا مُقدَّسين، وأسخياء وعفيفين «لأن الناس ببساطة لم يكونوا هم الخطيئة نفسها، كانوا خطاة، فاسقين بالفطرة، وحتماً عرضة للقصاص العادل من الله».

يمكن للجميع أن يصبحوا قدِّيسين

وانتقالاً في مراجعته، يستعرض دريدا أفكار بويس؛ إذ يرى أن مذاهب إصلاح الانتخابات، أسفرت عن الأقدار، وما شابه ذلك كعواقب سياسية غير متوقعة. عن طريق تحويل التركيز من الخطيئة إلى الخُطاة. الإصلاحيون «بشر يتساوون في الروحية المتطرِّفة. كان كل الناس على الفطرة، والخُطاة لا يمكن تجنُّبهم ومن خلال نعمة من الله، يُمكن للجميع أن يُصبحوا قديسين».

لم يكن الكاهن أفضل من الفلاحين. مع مرور الوقت «أدَّت أخلاقيات البروتستانتية» هذه، كما يقول ماكس فيبر، إلى الرأسمالية، وجزء كبير من دينامية الحضارة الغربية.

ويؤكد بويس، أن العقيدة الرئيسية للمسيحية في الغرب ليست، في إيمان كثيرين، بالقانون الأخلاقي اليهودي - المسيحي. «الخلاص لم يأتِ من كونه جيداً أو مستحقاً». فمنذ البداية، كانت المسيحية «تستند إلى تركيز شخصي عميق على كسْر النفس، والاعتماد في المقابل على الوجود اللاهوتي؛ باعتباره وجوداً خارجياً لتوفير الخلاص». وفي النصف الثاني من كتابه، يناقش بويس كيف يمكن لإدانة هذا الشرِّ البشري - بالضرورة - أن يتجلَّى في أشكال مختلفة في العالم العلماني.

دريدا في تفصيل مراجعته يقف عند الفصول التي يتناول فيها بويس ديفيد هيوم، الذي يرى أن السبب من وراء ذلك كان دائماً ذلك الذي ارتضى أن يكون عبداً للتعميد والعاطفة. وقد افترض عالم الاقتصاد آدم سميث، أنانية عنصرية لدى الناس؛ فيما يعتقد بنيامين فرانكلين، أن الرجال كانوا محكومين بـ «حب السلطة وحب المال» إدراك طبيعتنا الساقطة، أن واضعي الدستور الأميركي - مثلاً - رسموا لحكومة من شأنها أن تكون ذات «تدبير يُرشِّد» الإثم الأصيل فينا. حتى جان جاك روسو في كتابه «اعترافات»، كشف أن ذواتنا الداخلية هي بمثابة غلاَّيات من العاطفة، وأيضاً هنالك العناد وجنون العظمة.

المُحرِّكات الغريزية

بحلول القرن العشرين، توصَّل فرويد في قول له، إلى أن الرجال والنساء مُقَوْلبُون من قبل محرِّكات غريزية، وخاصة الجنسية منها والعدوان، والتي توجد في مناطق من التوتر والأخلاق والفكر الواعي» كلُّنا سيِّئون حتى العظْم.

لذلك، قد يُشكِّل ذلك مفاجأة عندما ينظر بويس إلى التبشير المعاصر ويخلص إلى أن الشعور بالسعادة التي يوفرها الدِّين، هو في الواقع «إسكات» لعقيدة الخطيئة الأصلية. الدعاة واسعو الحضور والشهرة، مثل بيلي غراهام ينسب الشر إلى الشيطان - أو في هذه الأيام، إلى الإسلام الراديكالي - بدلاً من قلْب الإنسان.

ومع ذلك، يقول بويس، إن الخطيئة الأصلية لم تختفِ وقد تحوَّلت الآن إلى نوع من «الجين الأناني» بالنسبة إلى علماء النفس التطوري، وهو منهج في العلوم الإنسانية والطبيعية يُعنى بدراسة السمات النفسية كالذاكرة، والإدراك، واللغة من منطلق تطوُّري حديث، ويسعى إلى التعرف على السِمات النفسية التي تطورت للتكيُّف مع العالم المحيط. وهنالك لدينا ريتشارد دوكينز وستيفن بينكر وغيرهما ممن يقومون بتوظيف مفهوم «الفساد الوراثي.

بمعنى مَّا، يخلص بويس إلى أن تاريخ الغرب علِّل ما حدث عندما سِيق الناس إلى الاعتقاد بأن معبودهم قد أدار ظهره إلى خلقه». وما نحتاج إليه الآن، كما يشير، أن نستعيد الفضيلة على الأرض، لفهم أن العناية بعالمنا مرتبط ومتشابك مع العناية بنفوسنا.

شهادات... ضوء على السيرة

من جهتها أوردت دار «بنغوين» الشهيرة، تعريفاً لكتاب بويس، قالت فيه، إن المؤرخ الشهير جيمس بويس يُظهر في الكتاب، كيف أن أفكار الخطيئة الأصلية حدَّدت وجهة النظر الغربية من الطبيعة البشرية؛ وصولاً إلى الوقت الحاضر. إن إرث الخطيئة الأصليَّة يأخذ أشكالاً عديدة، بما في ذلك ميزة السخْط لدى الشعوب الغربية، والشعور بالذنب.

فضلا عن التاريخ المُبتكر للمسيحية، يُقدِّم بويس رؤى جديدة للخروج بغرب آخر. «ولدوا سيئين» يتتبَّع رحلة رائعة من آدم وحواء، امتداداً إلى أفكار ونظريات آدم سميث وريتشارد دوكينز والقديس أوغسطين، ومارتن لوثر، وسيغموند فرويد.

من جانبه أشار الموقع الشهير «أمازون»، في تناوله الكتاب، إلى أنه آسر ومثير للجدل، وفيه يستكشف المؤرخ الشهير جيمس بويس، كيف تمكَّن هذا المفهوم ومنذ قرون من تشكيل وجهة النظر الغربية حول الطبيعة البشرية؛ وصولا إلى الوقت الحاضر.

مورداً ما ذكره بويس في كتابه، من أنه على رغم الانخفاض الملحوظ في حضور الكنيسة في السنوات الأخيرة، لاتزال الأفكار الدينية المتعلِّقة بالأخلاق تدعم كثيراً مجتمعنا العلماني الحديث، بغض النظر عمَّا إذا كان لدينا علم بأصول تلك الأخلاق. بالإضافة إلى عرْض التاريخ المُبتكر للمسيحية، يقدِّم بويس رؤى جديدة لصنع غرب مغاير.

يُذكر، أن جيمس بويس مؤرخ شهير، من أهم كتبه «أرض فان ديمن»، كتاب تاريخي أصدره في العام 2008، وفاز بجائزة كتاب تسمانيا، وجائزة كولن رودريك، وكان على قائمة المرشحين لجائزة نيو ساوث ويلز، وله أيضاً «1835: تأسيس ملبورن وفتح أستراليا»، في العام 2011.

حاصل على الدكتوراه من جامعة ولاية تسمانيا، وهو باحث فخري في كلية الجغرافيا والدراسات البيئية.

العدد 4662 - الجمعة 12 يونيو 2015م الموافق 25 شعبان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً