العدد 4661 - الخميس 11 يونيو 2015م الموافق 24 شعبان 1436هـ

اليتيم الباحث عن الدفء

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

احتضنت «الوسط» السبت الماضي (5 يونيو/ حزيران2015)، احتفالية بالخطيب العدناني، السيد محمد صالح السيد عدنان الموسوي، الذي رحل عن دنيانا العام 2007، عن 88 عاماً.

والده صاحب السجل الشهير الخاص بالأوقاف الجعفرية في البحرين، الذي وثق فيه الأراضي التابعة لهذه الدائرة التي أنشئت مع بدايات تأسيس الدولة الحديثة، والتي لا تزال حوالي 800 أرض منها لم يتم تسجيلها رسمياً. والمبهر في عمله، إلى جانب توثيق الأراضي الوقفية للأجيال، أنه أنجزه خلال عام واحد فقط، كما أشار رئيس التحرير منصور الجمري في كلمته الافتتاحية، متنقلاً على حمار في الأربعينيات بين مناطق البحرين وقراها، قبل أن تُشقّ الطرق المعبّدة وتنتشر السيارات.

مؤسّس الأوقاف رحل سريعاً، عن 44 عاماً، مخلّفاً طفلاً وحيداً في العاشرة، سبق أن فقد أمه في شهره الثاني. وتبدأ سيرته بذهابه إلى الهند للدراسة في جامعة لكنهاو، حيث كان الأمل بأن يعود قاضياً، لكنه بعد تخرجه رفض تسنّم المنصب، خوفاً وتحرزاً على نفسه من القضاء، يحدوه الحديث المأثور: «القضاة ثلاثة، قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة»، ولإيمانه العميق بأن «القاضي لا يأمن على نفسه»، وقد كسب نفسه.

وهكذا سلك درباً آخر، مأموناً، فلزم الشيخ عبدالحسين الحلي، وأتمّ دراسته الدينية، وتوجّه إلى الخطابة، حيث تتلمذ بالحضور المباشر في مجالس الخطيب الحسيني محمد علي حميدان، في مأتم مدن بقلب العاصمة المنامة. واستمر يرتقي المنبر الحسيني ستين عاماً في مختلف مناطق البحرين، التي جاس خلالها أبوه ليوثّق أوقافها قبل ثمانين عاماً.

في هذه الاحتفالية، عرضت مكتبه الصغير: طاولة متوسطة، عليها الأقلام والمحابر القديمة، وبعض الملفات التي تحوي قصاصات جمعها لمقابلات ومقالات ومواضيع نُشرت له في المجلات والصحف. كما عُرضت خزانة كتب حوت صفوفاً من مؤلفاته، في مجالات شتى، تنم عن تنوع اهتماماته، ربما يغلب عليها شعر الرثاء الديني بفضل الاختصاص.

هذا القارئ النهم، المهتم كثيراً بالكتاب، جمعاً ونشراً، الذي عُرف بعزلته شبه الاختيارية في عالمه الخاص، كان يدوّن يومياته باهتمام، بما فيها فترة أحداث التسعينيات، التي بدا بعيداً عنها، والتي ستكون جزءًا مهما من حركة تدوين تاريخ البلاد.

كان كثيراً ما تراودني الرغبة بسؤال أحدٍ من أنجاله، حيث تربطني ببعضهم معرفةٌ وودٌّ، عن سرّ زواجه بأربع نساء، ما يفرض الانتقال يومياً بين مناطق مختلفة. واكتشفت الجواب في تلك الصباحية الجميلة التي جمعت عدداً كبيراً من بناته وأبنائه وأحفاده: إنه اليتم. لقد حُرم من أمّه ولما يُفطم، ومن أبيه ولما يبلغ الحلم. ولك أن تتخيّله صبياً وحيداً، معزولاً، محروماً من الحنان الذي يترشّفه الإنسان من الدائرة الأولى من الأقارب: الأبوين. وظلّ يذكر أباه بدموعه –كما قال أحد بنيه- وزادت دموعُه عندما تقدّمَ به العمر.

هذا هو سرّه إذاً، بحثاً عن الدفء، وتعويضاً عن الحنان المفقود، وعن العائلة التي شتّت الموتُ شملها مبكراً، حاول العدناني أن يؤسس أربع عوائل، بأكلافها والتزاماتها ومسئولياتها. لقد عوّضه الهن وبارك له في ذريته التي بلغ أفرادها 34، نصفهم من الذكور ونصفهم من الإناث، كثيرٌ منهم من النابهين العاملين في أعمال ومهن ومجالات مختلفة، وكثيرٌ منهم تلمّسوا خطى أبيهم فتغرّبوا في طلب العلم في بلدان أخرى. وكان يشيعهم ببيت شعر حفظوه ليكون لهم أنساً وسلوى:

ونيلُ العلمِ جوعٌ واغترابٌ وبِلغَةٌ...وصحبةُ أُستاذٍ وطولُ زمانِ

في وصيته التي تحتاجها كل أسرةٍ عربيةٍ، وتستحق أن يعلّقها أبناؤها وبناته في صدر بيوتهم وصيةً كريمةً للأبناء والأحفاد، هذان البيتان من الشعر الأبوي الرقيق:

بني بعدي لا أريد عبادةً

عني ولا حجاً ولا تتصدقوا

منكم أريد مودّةً ومحبةً

(لبعضكم) بعدي... ولا تتفرقوا.

ورأيناها رأي العين، تلك المحبة بين الأبناء والبنات من أمهات شتى، وهي ثمرة التربية على قيم التسامح والمحبة والانفتاح.

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 4661 - الخميس 11 يونيو 2015م الموافق 24 شعبان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 9:50 ص

      دروس تنفع الناس

      اعتقد ان الكاتب السيد قاسم اختار لقطات معينة وركز عليها مثل التغرب في طلب العلم والترابط الاسري. يعني فيه جانب اخلاقي واستلهام دروس مهمة.

    • زائر 3 | 3:48 ص

      شكرا لكم

      كتابة السيرة او اجزاء منها فن لا يتقنه الكثيرون ، واظن ان سر نجاح السيد قاسم في كتابة هذا المقال هو حبه وولعه بهذه الشخصية ومعرفته باهميتها للبحرين. وتطل هذه الشخصية ملهمة للكثير من المبدعين من كتاب وشعراء وفنانين وغيرهم.

    • زائر 2 | 2:19 ص

      الخطيب العدناني

      شكرًا أستاذ قاسم ع المقال
      ولكن البيت الصحيح هو :
      أبني بعدي لا أريد عبادة / عني ولا حجا وأن تتصدقا
      منكم أريد اخوة ومودة / بعدي وألا شملكم يتمزقا
      محبتي
      فضيلة الموسوي

    • زائر 1 | 1:10 ص

      ايجابي هذا السيد

      وصفك رائع خبئ في طياته دور الايجابية في قلب الموازين..كيف جعل السيد من جوعه العاطفي المنبثق من يتمه طريقا يبحث فيه ليبلغ هذا الثراء الفكري والعاطفي

اقرأ ايضاً