اكتمالاً للحلقة السابقة، فإن الرغبات فطرية وغريزية المنهج فهي لا تخضع لقوانين العقل والمنطق، فالعقل يقر بأن هناك أسباباً لتعطل العمل في ذلك اليوم وهي أسباب منطقية في مجملها، أعني عطل الإطار والكمبيوتر وغياب أبي هشام عن العمل. إذاً لم القلق والانزعاج من التأخير؟ بمعنى أنه في حين تدفعك الرغبة تحت هاجس الوصول إلى السعادة، إلا أن المشاعر المترتبة على إنجاز تلك الرغبة إيجاباً أو سلباُ لا تعرف السببية لا في أصل الرغبة من الأساس ولا في منطقية معوقات إنجازها. من هنا جاء المثل القائل (وللناس فيا يشتهون مذاهب) ولم يقل أسباب وذلك لأنها (المشاعر) غريزية كالرغبات.
وهي السبب في جعل الإنسان متأرجحاً بين السعادة والتعاسة، فلا توجد سعادة مطلقة ولا حزن دائم، وكم فرحنا لمقام ومال أصبناه وحزنا جداً لعزيز فقدناه... فلا سعادة المال أبدية، ولا الأحزان باقية، أو كما يقال ( الحزن يبلى كما تبلى الثياب). السعادة لحظية تأتى نتيجة طبيعية من تحقيق الهدف.
وهكذا أصبح الإنسان في الأزمنة والأمصار كافة، وما تمليه عليه الظروف من شظف العيش أو رغده حتى عند تباين أهوائه، بين محال ومنال، لم يزل على رغم كل ذلك فى دورات متتالية ومتتابعة بين هاجس الرغبات وسعادة المشاعر.
الماديات... وسيلة أم غاية؟
والإنسان بفطرته وفي سعيه غير المستكين للوصول للسعادة يلج التجربة تلو الأخرى، ثم يكرر الناجحة منها والمتيقن من نتائجها كالمآكل الشهية أو الروائح الزكية، أو الاستمتاع بمشاهدة المناظر الخلابة أو سماع الأغاني الجميلة، وهذه أمثلة حسية بسيطة للوصول إلى السعادة، وهي دائماً سعادة مؤقتة، أكرر مؤقتة ومتبوعة باستمرار بإعادة الكرة لاعتقادنا أن السعادة في الأشياء المادية.
وننسى أنها ليست سوى وسيلة فقط، لا تساوي شيئاً في غياب ذلك المخلوق الرائع الذي يمتطي صهوتها للوصول للسعادة أعني الإنسان. قل لى أين هي الجنة في غياب الإنسان؟؟. وبم تتحدث؟ أليست أشياء حسية بحتة؟. فاكهة وبساتين من نخيل وأعناب، ونهر من عسل، وآخر من خمر وحور عين من الجنسين ووو؟ صحيح أننا لم نختبرها بعد، ولكن ليس هناك أدنى شك في وجود شبه في الجوهر بينها وبين ما نختبره من جماليات في حياتنا اليومية وإلا لما عُلقت عليها كل الآمال.
وعلى رغم تنوع ماديات الحياة فإن ما تعطينا من سعادة تختلف من وقت لآخر فالأشياء التي تمنحنا السعادة ونحن أطفال تتوقف لتحل محلها أشياء أخرى عندما نصبح صبيةً يافعين، حيث تتنحى هذه الأشياء لتحل محلها أشياءً أخرى عندما نكبر، وأخرى مختلفة عندما نشيخ. إذن فالسعادة ليست في الماديات (الأهداف) وإلا لما توقفت هذه الماديات عن إعطائنا السعادة من حين لآخر! وهي ليست في أعضاء الحواس فالأخرى لا تدركها في غياب العقل وليست فى العقل أيضاً، إذ ليس في وسع العقل أن يستشعرها في غياب الوعي المطلق، وإن بدى ذلك ظاهرياً مثال: (عند الغيبوبة). والحقيقة إن المطلق قائم بذاته، مستقل حيادى، لا يتجزأ، غير مشخص، ولا يعتمد على وعي الإنسان به من عدمه تحت أى ظرف ما بقي الإنسان حياً. إذاً كيف السبيل إليها (السعادة)؟.
عندما ترغب في شيء ما يكون العقل في حالة عدم استقرار حتى تحصل على ذلك الشيء، وعندما تصيبه تشعر بالرضا سمها (السعادة)، ولكن لبعض الوقت سرعان ما تنطلق للبحث عن هدف آخر، إنها متوالية لا تتوقف أبداً، وأجمل ما سمعت في هذا الصدد تشبيه أحدهم بالجالس إلى المائدة بالآتي: لقمة في فمه، وأخرى في يده، وعيناه على الثالثة. إنه أبلغ وأصدق تعبيرٍ لهذه المتوالية، ومع كل قضمة وتذوق تدفعك الرغبة للقضمة الأخرى ثم التي بعدها، وأنت في دورات صغيرة جداً ومتكررة من (الرغبة/ الفعل/ المكوث/ السعادة) والأمر نفسه ينطبق على الحواس الأخرى من السمع والنظر والشم واللمس فأنت تتذوق الموسيقى والغناء قطعة قطعة لذلك يكرر المغنون الموال مراراً لا لشيء إلا لكى يواكب الموال تلك المنظومة (الرغبة/ السمع/ المكوث/ الطرب) أعني (الرغبة/ السعادة) وإليه العملية الجنسية مثال صارخ على تتابع الرغبة المقرونة باللذة، فاللذة الجنسية لا تستشعر دفعة واحدة بل قطعة قطعة أعنى دورات متكررة (رغبة/ (فعل ميكانيكى)/ مكوث/ لذة = (رغبة/ سعادة) ولكن ونحن في سعينا المتكرر والمحموم لبلوغ السعادة بأشكالها كافة من حسية وفكرية في حياتنا اليومية لا نعلم أننا نبحث عن ذواتنا الحقيقية وهذا هو مربط الفرس. أجل عزيزي القارىء، لقد خلقنا رب العباد على هذا النحو حتى نتعرف عليه في أنفسنا. (ومن عرف نفسه فقد عرف ربه) (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) سورة الذاريات. ولكننا للأسف ضللنا الهدف وغرقنا في الأبجديات (ماديات الحياة).
انظر إلى الدنيا من حولك ماذا ترى؟ كل شيء فيها من طبيعي رباني أو غيره صناعي هو موجه لتحفيز ذلك المحرك الجبار (الرغبات) فكل الشركات العالمية على اختلاف أنشطتها ومنتجاتها من لوازم آدمية أو استهلاكية أو ترفيهية كالسينما والتلفزيون والرياضة وغيرها كلها مبرمجة لتناسب الخيارات والأذواق كافة. وفي نهاية المطاف تحريك ذلك العملاق الغريزي حتى أضحى العالم قطبين أحدهما منتج مسيطر، والآخر مستهلك تابع! الأول سعيد بالاحتكار والنفوذ والآخر يبذل الغالي والنفيس ليحوز الملذات الاستهلاكية، وآخرون يزاحمون الأولى على هذه والأخرى تلك. وكلٌ يغني على ليلاه.
وهكذا أصبحنا ننهل من كل شيء ونشتري ما نحتاج، وما لا نحتاج، ونكرر التجربة مراراً والهدف هو تلك السعادة اللحظية نتاج الرغبات. وهذا مصداق لقول طاغور (الحياة قائمة على الحركة، صيرورة متحركة غير ثابتة، إذاً فالخلود عدم، ومن يطمح في الخلود فعليه أن يستنفد حدود الممكن) ولتعلم جيداً عزيزي القارىء أنك لن تستنفد حدود الممكن ما حييت.
إلا أن المستقبل الجامع والأخير في تلك المنظومة كلها هي الذات الحقيقية، أوالمطلق العظيم، وهو الشاهد والمتلقي لكل الأفكار والمشاعر والتلقيات الحسية، في جميع الأحوال (اليقظة والنوم والنوم العميق)، بنجاح تام ومن دون توقف أو انقطاع، أو كما يصفه المتصوفون تيمناً بما ورد فى القرآن الكريم (لا تأخذه سُنة ولا نوم) آية الكرسي، تأكيداً للقول المأثور (الإنسان خليفة الله في الأرض).
إلا أن تكرار التجربة في حالة الإخفاق له دلالات أخرى، وهي البحث عن الكمال... وذلك موضوع آخر يطول شرحه... لذا جُبل الإنسان على حب العمل والمثابرة والكفاح طمعاً في الكمال تحت مظلة السعادة. أجل السعادة. غاية كل البشر وقبلتهم من دون استثناء.
إقرأ أيضا لـ "سيدعدنان الموسوي"العدد 4661 - الخميس 11 يونيو 2015م الموافق 24 شعبان 1436هـ