التاريخ الإنساني غني بالمواقف المشهود لها بأدائها الإيجابي في التغيير الاجتماعي وبمبادرة الأفراد المتميزة في إضافاتها النوعية وإثراء الحراك التاريخي للتطور الحضاري والتغيير الاجتماعي والتنموي. ويشير تاريخ تطور المجتمعات البشرية إلى أهمية دور الأفراد في إنجاز الأهداف التنموية، ومن الثابت في تاريخ حياة المجتمعات أن بناء القيم الرصينة للجماعات البشرية وتقويم مفاهيم سلوكها وتنظيم وسائل استثمارها للرأسمال الايكولوجي في معيشتها وحياتها، ارتبط بثقافة النوادر من القوم الذين تميّزوا بحاكمية التوجيه وعاقلية تحديد المسارات والاتجاهات المرتبطة بمنظومة من القيم لتنظيم وترشيد السلوك البشري.
السلوك البيئي القويم الذي يجري تشخيص فوائد منجزاته في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، منتج رئيس للقيم التي صنعتها ثقافة حكماء القوم التاريخيين على مر العصور، وتطوّرت لتكون ظاهرة ميّزت مسيرة التنمية والتطور الإجتماعي لعدد من المجتمعات في المرحلة الحديثة، وبرز أكثر عمقاً وانتشاراً في المفاهيم الحقوقية والبيئية والاجتماعية حتى صار ظاهرة ملموسة في الصحوة العالمية للحراك البيئي، التي رافقت التحول التاريخي للمشروع الدولي البيئي، وحقّقت انتشاراً واسعاً بعد مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة البشرية (ستوكهولم، 1972).
الأثر النوعي للأفراد في إثراء الحراك البيئي والمساهمة في بناء السلوك البشري وإنجاز أهداف التنمية المستدامة، متنوع بتنوع الأفراد ونوع مسئولياتهم في المنظومة المجتمعية. ويدخل ضمن هذه الفئة من البشر الأفراد الذين يمسكون بزمام القرار السياسي ويتميّزون بالحكمة والوعي بجوهر البعد الاستراتيجي للرأسمال الايكولوجي في التنمية الإقتصادية والإجتماعية، وضمان الأمن المعيشي والتطور الحضاري.
ويقابل ذلك فئة أخرى من البشر الذين يمتلكون المفاهيم والقدرات العلمية في تشخيص فوائد رأس المال الايكولوجي في توفير مقومات الأمن المعيشي للمجتمع وللتنمية والتطور الحضاري، والذين سجّلوا ابتكارات علمية وإضافات مهمة في حقل العلوم البيئية في بناء المعايير البيئية القويمة وتحديد الاتجاهات والمنهجيات العلمية المؤسسة لصون مقومات معالم الرأسمال الايكولوجي واستحداث الأسس المنهجية لبناء السلوك البشري القويم من أجل إنجاز أهداف التنمية المستدامة.
كما أن هناك فئةً ثالثةً من البشر ضمن الأفراد الذين تبوأوا المراكز العليا ضمن منظومة الإدارة البيئية وسخروا إمكاناتهم وسلطاتهم الادارية في توفير متطلبات العمل ودعم التخطيط الاستراتيجي الموجّه في أهدافه وتمكين الكفاءات العلمية والإدارية في ممارسة عملها بأريحية وتحفيز، وتقدير جهود الكادر الإداري لإنجاز الأهداف الاستراتيجية للتنمية المستدامة.
ويضاف إلى ذلك النوع من البشر نشطاء العمل الاجتماعي البيئي الذين أثروا بجهودهم والتزامهم وتحملهم للمسئولية، الحراك البيئي الوطني والاقليمي والعالمي. والمجتمع العربي والخليجي يزخر بهؤلاء، وهناك حقائق ملموسة تؤكد تلك الدلالات ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى رجل البيئة العربي المرحوم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الذي أحدث طفرة نوعية في العمل البيئي في بلاده، وعرفه العالم بمشاريعه الاستراتيجية لصون التنوع الحيوي والحفاظ على الحياة الفطرية وتنفيذ برنامج إكثار المها العربي وحمايتها من خطر الانقراض، والاهتمام بصون الطهر العربي النادر من خطر الانقراض وتشييد المحميات الطبيعية في ربوع الصحراء والجزر والمناطق البحرية، وبناء منظومة مؤسسية وقانونية بيئية، وتنفيذ المشاريع التنموية التي وضعت في صلب أهدافها الاهتمام برفاه العنصر البشري وتشييد المدن المستدامة التي غدت علامة بارزة في المشاريع الحضرية العالمية. والمنهج الذي بنى أُسسه زايد، يمثل النهج الذي ينظم العمل المؤسسي والتخطيط الاستراتيجي للإدارة البيئية في دولة الامارات، وساهم في إحداث الطفرة النوعية التي تشهدها الامارات في الخطط والمشاريع البيئية الحديثة.
والحراك البيئي العربي عرف أيضاً شخصيات تركت أثرها الفعلي في المشروع الدولي البيئي، ومن بينها عالم البيئة المصري مصطفى كمال طلبة، أحد الشخصيات المهمة المؤسسة لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) العام 1973، ومديره التنفيذي منذ 1974 حتى العام 1992، وهو مؤسّس مفهوم «دبلوماسية البيئة»، ومهندس مفهوم التنمية المستدامة، قال عنه رئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية» أمين عام المنتدى العربي للبيئة والتنمية نجيب صعب: «طبعت رئاسته للبرنامج جميع أعماله بطابع القوة والالتزام، وشهدت إطلاق وتوقيع أبرز المعاهدات البيئية الدولية».
ويشترك معه في مسار العمل والانجاز البيئي عالم النبات والبيئة المصري المرحوم محمد عبد الفتاح القصاص، أول مسئول من العالم الثالث يترأس الاتحاد الدولي لصون الطبيعة والموارد الطبيعية (IUCN) في الفترة 1978-1984. ومن العلماء الذين قدّموا إسهاماتهم العلمية في معالجة قضايا التصحر وتدهور الأراضي في المناطق الجافة، ويقابل ذلك الجهد مساهمات الشخصيات البيئية التي أولت اهتمامها في الإرتقاء بمنظومة العمل الاداري البيئي في بلدانها وعرفت بالنزاهة والحرص المسئول في أداء العمل البيئي، نذكر منها على سبيل المثال عادل الزياني من البحرين، وعبدالعزيز عبدالله المدفع من الإمارات، اللذين قدّما إسهامات مهمة في بناء الأسس الاستراتيجية للعمل البيئي.
ويزخر المجتمع المدني العربي أيضاً بنشطاء العمل البيئي الذين أكدوا حضورهم المتميز، ليس على المستوى الوطني والإقليمي وحسب، بل في منظومة خارطة النشاط الدولي البيئي، ومن بين هذه الشخصيات المختصة في القانون الدولي البيئي والناشطة البيئية الدولية د. بدرية العوضي التي ساهمت في تأسيس الحركة البيئية في الكويت في سبعينيات القرن الماضي، والناشط البيئي نجيب صعب مؤسس مجلة «البيئة والتنمية» الرائدة في الإعلام البيئي ومهندس المنتدى العربي للبيئة والتنمية الذي أثرى المكتبة العربية بتقاريره العلمية السنوية في الشأن البيئي.
إقرأ أيضا لـ "شبر إبراهيم الوداعي"العدد 4661 - الخميس 11 يونيو 2015م الموافق 24 شعبان 1436هـ