تماماً كما توقع المحللون وتمنى المعارضون، جاءت نتائج الانتخابات التركية الأخيرة كالصاعقة على «حزب العدالة والتنمية» وتحديداً على الرئيس رجب طيب أردوغان. أسباب الانتكاسة عديدة ومتشابكة وتستحق الإضاءة عليها لأهميتها.
شكلت الانتخابات منعطفاً حدّد مستقبل الحزب الذي حكم تركيا منذ اثني عشر عاماً، وبرزت من خلالها استقطابات داخلية بين الأحزاب، كما عكست توازنات سياسية وإقليمية. أما نتائجها وتبعاً للمحللين، فستؤثر بهذا الشكل أو ذاك على سياسات تركيا داخلياً وإقليمياً، خصوصاً مع فوز حزب «الشعوب الديمقراطي» الكردي الذي شكّل بيضة القبان بما أحدثه من تراجع في مرمي أهداف أردوغان الانتخابية لجهة تحقيق أغلبية برلمانية تؤهل حزبه لإجراء تعديلات دستورية، وتحويل النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي، لا يقتصر على منصب الرئاسة الرمزية كما يحدّدها الدستور الحالي وإنما تجميع كامل الصلاحيات في يد رئيس الجمهورية، ما يعني تفرّد حزبه بالحكم.
لاشك أن النتائج شكلت علامة فارقة في إعادة رسم الخارطة السياسية في الداخل التركي، خصوصاً مع تراجع أصوات الحزب الحاكم إلى 41 في المئة مقارنةً بـ50 في المئة في انتخابات 2011، وتقلص مقاعده إلى 258 مقارنةً بـ327 في السابق، وبالتالي ابتعاده عن تحقيق نسبة الثلثين بفوز 400 كأكثرية تمكنه من تعديل الدستور دون استفتاء شعبي، أو 330 أو حتى النصف زائداً واحد بما يساوي 276 كحد أدنى من أصل المقاعد الـ 550 التي تؤهله لتحويل اقتراح التعديل إلى استفتاء شعبي.
أجمع أغلب المحللين على إخفاق حزب «العدالة والتنمية»، وأن تركيا أمام انقلاب سياسي كبير، وليس أمام حزبها الحاكم من طريق سوى تشكيل حكومة ائتلافية مع الأحزاب المعارضة كحزب «الشعب الجمهوري» الذي حقق 132 مقعداً، وحزب «الحركة القومية» الذي حصد 78 مقعداً أو حزب «الشعوب الديمقراطي» الكردي الذي نال 81 مقعداً. بالطبع خيارات الائتلاف مع أيٍّ من هذه الأحزاب طريقها شائك وليست مفروشة بالورد، لماذا؟
لأسباب عديدة قد تفرض تراجعات مكلفة وتنازلات يقدّمها حزب «العدالة والتنمية»، وهي أشبه ما يكون بأبغض الحلال الذي يقبله ويتنازل عنه أردوغان وحزبه الحاكم، ومع ذلك فثمة احتمال قوي قائم لسيناريوهات هذا الائتلاف، يمكن إيجاز ملامحها في التالي:
أولاً: الائتلاف مع حزب الشعب الجمهوري
هو ثاني حزب من حيث رصيده في مقاعد البرلمان، ويصنف كحزب «اشتراكي ديمقراطي»، وهو من أقدم الأحزاب العلمانية التي تتبنى قضايا العدالة الاجتماعية، وصار حزباً معارضاً يعاني من الضعف في طرح البدائل مقارنةً بما يطرحه حزب العدالة والتنمية، إلى جانب محدودية قدرته على التوسع الجماهيري. وقد اشتهر أيام الانتخابات بكشفه عن دور المخابرات التركية في تسهيل عبور شاحنات الأسلحة إلى المتطرفين في سورية ودعمهم، كما صرّح زعيمه العلماني كمال كيليتشدار أوغلو أيامها بتطلعه إلى السلام في سورية وعودة مليوني سوري في تركيا إلى بلادهم، خصوصاً وأنه من أنصار صداقة تركيا مع نظام الأسد وعراق نوري المالكي، وبناء علاقات متينة مع إيران، وبالتالي فهو يتعارض مع التوجهات السياسية للنظام.
ثانياً: الائتلاف مع حزب حركة القومية
تبعاً لبعض المحللين، قد يفضي ائتلاف «العدالة» معهم إلى تجميد وتراجع تفاهمات السلام التي سبق وأن توصل إليها الحزب الحاكم قبل سنوات مع الأكراد، فهذا الحزب واستناداً لرؤيتهم لا يروق له التقارب مع بعض البلدان العربية ويفضّل التوجه لتوطيد وترسيخ العلاقة مع الغرب. وقد سبق لزعيمه دولت بهتشلي التصريح بأن نظام أردوغان وحكومته شريكان في الحرب على سورية من خلال التنسيق والتعاون مع التنظيمات الإرهابية. كما دعا في تجمع انتخابي له إلى محاسبة ومحاكمة المسئولين عن دورهم في هذه المؤامرة، ومن قاموا بأعمال فساد تم الكشف عنها في العام 2013. بالطبع هو يغمز من قناة أردوغان، وبعد فوز حزبه طالب بإجراء انتخابات جديدة إذا لم يستطع الحزب الحاكم الاتفاق على أي ائتلاف مع حزبين معارضين في البرلمان، إلا أن هذا الائتلاف - حسب بعض المحللين- قد يولد حالة استقطاب قومي في تركيا، ويكون لتداعياته ثمن باهظ في ظل ظروف داخلية وإقليمية قد تؤدي بالحزب الكردي للتوجه إلى البرلمان الأوروبي وعرض مظالمه للحصول على اعتراف دولي واسع بتمثيله للأكراد في تركيا، أو يكون مقدمة لإقامة دولة كردية في المنطقة، وهذا ما لا يقبل به أردوغان وحزبه.
ثالثاً: الائتلاف مع حزب الشعوب الديمقراطي الكردي
يعد من أبرز السيناريوهات المتداولة، لاسيما بعد تجاوز حزب الأكراد حاجز الـ10 في المئة وتحقيقه نسبة 12.84 في المئة، وفي الحقيقة كل الأصوات التي كسبها تمثل خسارة صافية من حساب حزب «العدالة والتنمية». لقد جازف الأكراد بخطورة في الانتخابات الأخيرة بعدم الترشح كمستقلين بهدف الحصول على أصوات غير الأكراد المعارضين لأردوغان ممن يرغبون في منعه الحصول على أغلبية برلمانية، إضافةً إلى عوامل أخرى ساهمت لصالحهم كتقديم الهوية الكردية على الهوية الإسلامية، وعدم تصويت نسبة من الناخبين الأكراد المتدينين ممن كان يصوّت لأردوغان، وذلك بسبب موقفه الداعم لسقوط «كوباني» في أيدي تنظيم «داعش»، وتنكّره لوجود قضية كردية وعدم جديته في التفاوض معهم وتقديم أي مكتسبات إليهم. وهذا ما يفسّر سبب هجومه السياسي على الحزب ووصف زعيمه بأنه «صبي تافه ليس سوى واجهة لحزب العمال الكردستاني»!
أما زعيم الحزب صلاح الدين ديمرتاش، وفي أول تصريح له بعد الفوز قال: «وعدنا شعبنا بأن لا نشكّل حكومةً مع حزب العدالة، ولن ندعمه من الخارج»، مؤكداً أن نتائج الانتخابات وضعت نهايةً للنقاش حول النظام الرئاسي.
إلى هنا وثمة ما يلفت إليه المحللون من أن هذا السيناريو سيضع حزب «العدالة والتنمية» في وضع لا يحسد عليه، أمام ضغط التنازل والذهاب مع الأكراد في محادثات سلام. كما قد يفضي إلى نتائج سياسية لها انعكاسات على وضع تركيا الداخلي والإقليمي، وإن لم يحدث أي من هذه التحالفات بسبب تشرذم المعارضة وحالة الاستقطاب بينها وبين بعضها البعض أو بين حزب «العدالة والتنمية» الذي تغيّرت الموازين في غير مصلحته، وربما يتم اللجوء إلى انتخابات مبكرة قبل نهاية العام. ولكن كيف؟
يرجح بعض المحللين أن يلجأ الرئيس أردوغان لاستخدام صلاحياته التي يمنحها له الدستور كرئيس في عدم تسليم السلطة لأي حزب معارض، وقد يكلف رئيس الوزراء بصفة أن حزبه يمثل أكبر الأحزاب السياسية التي حصلت على أكبر عدد من المقاعد، يكلفه بتشكيل الحكومة، كما يمنح الدستور أيضاً 45 يوماً لتأليف الحكومة والحصول على ثقة البرلمان.
وفي حال لم يحصل رئيس الوزراء على ثقة البرلمان، يبقى الاحتمال أن لا يقوم الرئيس بتكليف الحزب الثاني، بل يوجّه الحكومة التي لم تحصل على ثقة البرلمان، بالبقاء في السلطة، ويقرّر بعدها حل البرلمان والإعلان عن موعد جديد للانتخابات المبكرة خلال 90 يوماً.
خلاصة هذه الحالة المعقدة، ترشح تركيا لتكون في دائرة صراع سياسي واستقطابات يغلب عليها الطابع الديني والعرقي والطائفي والقومي، وهي بحق وصفة سحرية وبيئة محفزة للإخلال بالاستقرار السياسي وتأثيره السلبي في ظل مواجهة تركيا جملةً من التحديات الداخلية والخارجية المتعلقة بدورها الإقليمي خلال الفترة المقبلة.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4659 - الثلثاء 09 يونيو 2015م الموافق 22 شعبان 1436هـ