ينشغل الفنان التشكيلي العراقي سيروان باران في مرسمه بعمان الغربية لإنجاز أعمال معرضه المقبل الذي سيقام في قطر، وسيكون مشتركا مع نحات أفريقي.. في مشغله حيث تنتشر الألوان الزيتية والمائية والأكرليك، بينما لوحة من الكانفاص قيد الإنجاز تحتل واجهة الجدار العريض تنتظر ربما اللمسات الأخيرة، أو تغييرها تماما ورسمها ثانية، يقول سيروان: «حتى الآن، نحن في الشرق عندنا مفهوم العمل الفني لا يزال يتعلق بالمواد التقليدية، ألوان (زيتية أو مائية أو أكرليك) وكانفاص أو ورق، لكن في العالم اليوم لم يتبق مثل هذا المفهوم، العالم يسأل عن النتيجة، استخدام الصور والضوء وتقنيات الكومبيوتر.. المهم المتلقي أو الناقد يشاهد النتيجة ويحاسب عليها، وما هو موضوعك»، موضحا أن «هناك بعض الفنانين إما يستسهلون إنجاز العمل أو يخافون من المغامرة. اللوحة معركة كبيرة أو مغامرة جريئة، تبني وتهدم وتبني وتغير، هناك فنانون يعرفون ماذا يفعلون، يبدأ ثم يتدرج ببناء عمله حتى ينتهي وهذه متعته».
سيروان عندما يشتغل على لوحته لا يرسم.. بل ينشئ حياة متكاملة.. ينهمك في مغامرته نحو أقصاها، يلون ويزيل أشكالا ليعيد صياغتها، ثم يترك العمل ليتجه إلى عمل آخر ممدد فوق طاولته الواسعة ليكمل بعض الجوانب في لوحة مائية على ورق دون أن يجد أي غضاضة في الانتقال من الرسم بالزيت على الكانفاص إلى استخدام الألوان المائية على الورق، يقول: «أنا أجد متعتي في إنجاز العمل الفني من خلال المغامرة، لا يهمني أي مادة أنفذ من خلالها العمل، المهم أن أغامر لأنتج عملا فنيا يثيرني».
ويعترف هذا الفنان الذي انتشرت أعماله في مختلف بلدان العالم، على الرغم من أنه بدأ طالبا للفنون في منتصف الثمانينات، قائلا لـ«الشرق الأوسط» خلال لقائنا به في عمان: «أنا أخاف من السطح الأبيض، اللوحة الفارغة تقلقني وتشوشني، لا أقف أمام لوحة بيضاء خالية، بل أطلب من أي صديق قريب مني في المرسم أن يملأ اللوحة البيضاء بأي لون وبأي طريقة، المهم ألا تكون اللوحة بيضاء.. الدرجة الضوئية للوحة البيضاء تؤذي العين وتربك». يأتي إلى اللوحة دون أن يخططها: «لا أخطط لأعمالي ولا لوحاتي.. لا أرسم إلا إذا شعرت بحاجة للرسم، وهذا يحدث عندما يحفزني موضوع أو مشهد معين أو فكرة أو أشعر بأني بحاجة (جوع) للرسم، وهذه الحالة تأتي خاصة بعد أن أقدم معرضا أو موضوعا معينا وأتخلص منه، بعد فترة أشعر أني بحاجة لأن أشتغل على فكرة أو أفكار أخرى جديدة.. وأنفذ اللوحة مباشرة بلا مقدمات.. عندما أشتغل تكون هناك عدة مفردات.. أبرزها الشخوص والخلفية في مسرح اللوحة، وغالبا ما أكون أنا في اللوحة، أو أحد شخوص العمل، أما الموضوع فهو الحدث اليومي الذي أعيشه».
المعارض التي قدم فيها سيروان أعماله ليست مجرد أمكنة وعناوين لعرض عدد معين من اللوحات، بل إن كل معرض هو تجربة أسلوبية مختلفة عن سابقاتها، المعرض هو تأسيس لأسلوب فني ربما غير مخطط له على الورق، لكنه بالتأكيد مخزون في الرؤية الإبداعية للفنان، يقول: «في كل معارضي (أكثر من 15 معرضا شخصيا، أولها كان في قاعة الرواق ببغداد 1991، أي بعد عام من تخرجي في كلية الفنون الجميلة في بابل، وبعدها لأني كنت من الأوائل عينت مدرسا في كلية الفنون بجامعة بغداد، بطلب من عميدها) عبارة عن تاريخي الأسلوبي، أنا أشتغل ضمن مساحة التعبيرية الحديثة، التي نشأت في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وتثيرني كثيرا تجارب الفنانين الألمان بعد الحرب الثانية، نعم أنا ابن الفن العراقي وتجربته، لكني في الوقت ذاته ابن التجربة العالمية وذاكرتي يقظة في التقاط التجارب الفنية العالمية وتأثيراتها، من أول تجارب غويا إلى سوتين إلى لوسيان فرويت، أيدون شيلي، بيكون، كما تأثرت بأعمال عدد كبير من الفنانين الأميركان، والفنانين الذين اشتغلوا على (البوب آرت) تأثرت بهم وأحببت أعمالهم، لكن بالنتيجة ومع هذه التأثيرات نتجت تجربتي الشخصية، تجربة سيروان الذي يشتغل على التعبيرية الحديثة، عندي شخوصي والحدث الراهن هو ما أتناوله بوصفه موضوعا».
ويوجز سيروان تجربته من خلال معارضه الشخصية، يقول: «تغلب الصفة الدرامية على أغلب أعمال معارضي، في عام 2000 قدمت مجموعة (الهروب) وهي مجموعة لوحات لخيول نفذت بأسلوب تجريدي، عبارة عن خطوط لخيول بلا رؤوس، خيول تهرب في اتجاهات مختلفة وبلا أي هدف، في 2003 عرضت (بقايا إنسان) بعد الغزو الأميركي للعراق، الحرب، عرضتها في مدينة حلب ورسمت أجسادا مجردة، ثم عرضت في طوكيو تجربة مهمة جدا وعرضتها في 2007 بقاعة الأورفلي بعمان، اعتمدت السخرية في تقديم الشعارات المكتوبة على الجدران، شعارات سياسية ودينية، وهي الشعارات التي كانت موجودة سوى أن الأسماء تتغير مثل: عاش القائد البطل فلان، واتي من يكتي هذا خائن، ثم يعود بطلا.. وهكذا، صورت الجدران ذاتها عبر أيام وأشهر، وجدرانا أخرى، واشتغلت عليها بعدة طبقات». يستطرد قائلا: «في 2010 قدمت تجربة في (الآرت هاوس) وفيها سخرية (قبلة إلى كلب)، ودخلت في أسلوب آخر برسم الكلب وأدخلته إلى عملي كونه يرمز للحضارة الأفريقية حيث يعتبرونه مرحلة انتقال الإنسان من الحياة إلى الموت، وفي حضارة المايا الذين كانوا يجدون الكلب هو مرحلة انتقال الحيوان إلى الإنسان..
وفي 2011 قدمت معرض (همسات سرية) وأخذت مفردة انتقال الإشاعة والنميمة والخوف، وكتبت في تقديمي للمعرض (في الأمس كنا نهمس وما زلنا ولا نعرف متى سنتحدث بصوت مسموع) وهذا يتعلق بالخوف.. ثم بدأ العمل يمضي إلى الدراما، وبدأت أبتعد وأدخل منطقة التهكم نتيجة الإحباطات التي أصبنا بها، وإحباط الشعور بالحالة الإنسانية».
ويتحدث سيروان عن تجربة إنسانية غيرت فيه الكثير من المفاهيم نحو صيغة الوجود البشري، يقول: «كنت أتابع أخبار الثورة السورية، فشاهدت أطفالا سوريين ميتين وعلى وجوههم أرقام وليست أسماء، وكأنهم دمى ذابلة، دخلت المرسم وبقيت أسبوعين أرسم دون انقطاع، ولم أترك مرسمي حتى خرجت بتجربة أسلوبية هامة؛ إذ منحت شخوصي التي اشتغلت عليها أرقاما، وشعرت أن الرقم صار مهما والإنسان تحول إلى رقم. ثم قدمت معرضا مشتركا مع زميلي النحات العراقي أحمد البحراني في غاليري المرخيا بقطر العام الماضي حمل عنوان (أرقام عشوائية) عملنا كل بأسلوبه حول موضوعه كيف نستخدم الرقم.. الرقم صار هو الموضوع»، موضحا أن «اللوحة تبدأ عندي كفكرة، الفكرة هي التي تحركني وتهمني، وما أريد إيصاله للمتلقي، يهمني أن يكون العمل الفني جماليا وكيف إخراجه، ويجب التقاط الطاقة التعبيرية أو الجمالية في العمل».
الفكرة عند سيروان هي التي تقوده إلى الأسلوب: «أنا أنفذ العمل بأي وسيلة، أعني سواء بالرسم (زيت على كانفاص) أو بالألوان المائية أو أن ألجأ إلى النحت كما فعلت في تجربة مهمة للغاية وهي (آخر الجنرالات)».