الثبات على المواقف التي لا لعب أو جدال فيها في هذا الزمن يُعدُّ ضرْباً من الفنتازيا بالنسبة إلى كثيرين، كما يُعَدُّ ضرباً من «الجنون» أحياناً. أقول المواقف وليس القناعات. قناعتك اليوم قد تتبدَّل غداً، بحكم متغيِّرات تفرض مثل ذلك التحوُّل. المواقف التي بها يُعرف الإنسان، تلك التي تتعلَّق بوجوده وعلاقاته ضمن معايير لا تُمارس إجحافاً أو تطاولاً. المواقف التي لا تعِد بمحصِّلات مُربحة دائماً بالمقياس المادي والشائع.
مثل أولئك في عالم اليوم هم «مجانين»؛ وخارج سياق لعبة التغيُّر والتلوُّن؛ وبعبارة أخفُّ وطأةً لدى كثيرين: التكيُّف مع المزاج العام، وما يصدر عنه، وما بات جزءاً من ملامح العصر والمفاتيح لدخول أبوابه، وشروط علاقاته. أولئك «المجانين» لا يريدون أن يكونوا جزءاً من تزييف الواقع والحياة، والتواطؤ مع حالات انحرافه، ومناهج تعاطيه مع الحياة والإنسان.
وعلى رغم أن محيطاً كبيراً في عالم اليوم من دون عقل؛ إلا أنه ينتبه إلى ثبات أولئك؛ ويرى فيهم خطراً يُهدِّد مزاجه المتقلِّب، ومعاييره المضطربة، وعلاقاته القائمة على المنافع والمصالح؛ ومحاربته للمواقف التي تكشف زيفه وخداعه وأنانيته وتعطُّشه لممارسة مزيد من المصادرات، ومزيد من تجريد البشر من عاطفتهم الطبيعية؛ وما يختارون من مواقف وتحويلهم إلى كائنات مُجرَّدة من حس ضروري وطبيعي. تلك المحاولات لا يجب التعاطي معها باعتبارها صوْناً للأمة من الفرقة والاختلاف - وذلك هو ما يُسوَّق ويُروَّج له - بقدر ما يجب التعاطي معها باعتبارها المفاتيح التي تستدرج الأمة إلى كل ذلك!
ولا يُمكن أن يتحقَّق الثبات على المواقف تلك من دون انتباه؛ ومن دون تفعيل النظر إلى حقيقة ما يحدث ويدور في عالم اليوم. الانتباه إلى ممارسات ولا أخلاقيات باتت هي العادي مما يواجه الإنسان ويألفه مع مرور الوقت؛ واندفاع الممارسة واستمرارها. وفي ذلك كشفٌ بيِّن للأذى والاضطراب الذي ينتظر العالم؛ ويُهدِّد ما تبقى له من قيمة ومعنى وجدوى.
بعضٌ يريد للمواقف التي نعنيها أن تكون مُتغيّرة؛ لا القناعات وحدها؛ اتساقاً مع طبيعة العالم الذي لا يمكن أن يكون ثابتاً وجامداً؛ بل من سمات وشروط استمراره أنه مُتحوِّل ومُتغيِّر، وفي ذلك لعب رديء، وتبرير مريض، وسعي ماكر لجرِّ العالم إلى مزيد من انحطاطه وانحداره، وتوجُّه نحو استدراج إنسانه إلى معلوم - وليس مجهول - المصير الذي ينتظره. كما إنه يتسق مع توجُّه ليس على مستوى الجماعات؛ بل على مستوى الدول لإخضاع تلك المواقف وجعلها تحت تصرفها، توجيهاً وتحريكاً وتوظيفاً أيضاً.
دلالات أن تلتزم بمواقفك لا تنظر إليها أطراف باعتبارها خياراً خاصاً بك؛ بل باعتبارها تهديداً لما يُراد له أن يشيع ويُكرَّس ويُمَرَّر ويُصطنع من مواقف، تصبُّ في صالح أجندات وتوجُّهات وسياسات لن تكون قادرة على شَرْعَنة الخلل في الحياة، ما لم تتمتع بقدرة على استيعاب واحتواء تلك المواقف المُضادَّة التي ترمي إلى مصلحة الحياة والبشر.
كل هذا الاضطراب والتمييع واستحواذ أطراف على الحياة في مكان ما، وحرمان آخرين منها، لم يتحقق، ويتمدَّد اليوم لولا تلك المكنة الدافعة باتجاه احتواء الذين يظلون ثابتين في مواقفهم المضيئة والحرَّة والشريفة.
وثمة موازنات ضخمة تُرصَد وتُنفَق في هذا السبيل. سبيل اللعب بالمواقف تلك، والعمل على رجرجتها وإزاحتها وخلخلة ثباتها.
القوة، بكل صورها وأشكالها وتمظهراتها، تُوجِد قدرات لتحقيق ذلك، بالإزاحات التي تُنجزها في تلك المواقف. لا هدف بعد هدف تحقيق تلك النتيجة. وبتحققها تكون الهيمنة على المحيط بشيوع وتعميم حال من الانتهازية والتمصلح، وبين تلك وذاك، لا يتضح في ذلك المحيط سوى أنماط من الخضوع والاستلاب؛ بهيمنة تطول كل شيء!
لا توازن يمكن أن تتلمّس الحياة طريقه وكذلك البشر، ما لم يكن للثبات في المواقف تلك قوة حضور، ومجالدة، واستئنافاً للدور الذي يُراد تعطيله، بتعطيل أصحاب المواقف تلك عن المشاركة في تفاصيل الحياة تلك، تهميشاً وتغييباً. التفاصيل التي تُتيح الفضاء لا الحبس، والقيمة لا التفاهة، والقوة لا الضعف والوهن.
ثم إن الوصْم بالجنون لا يقتصر على الثابتين في مواقفهم النبيلة والحرة والدافعة إلى كرامة الإنسان، وانتصاراً لحقه في الحياة والاختيار، فكل خارج عن سياق ما هو مألوف، وإن كان ذلك المألوف سخيفاً وعقيماً ولا قيمة له، هو من أهل الجنون. على أنه لم يغب عن بالنا وبال كثيرين، أن أكثر الذين أحدثوا التغييرات العميقة في دنيا الناس والحياة، هم الذين نأوا بأنفسهم عن عقل سائد لا محصلات من ورائه.
وما يقرُّ ويثبت هذه المرة في عقل كل حر وشريف؛ أن المجانين أولئك بالثبات في المواقف التي نعني، هم الذين يصنعون الحياة الحرة والشريفة، وهم الذين يتولون تحصينها من الاختراق والاستهداف وتفريغها من محتواها والقيمة.
يا أصحاب المواقف الشريفة والحرة والجريئة: لا تتخلوا عن جنونكم.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4657 - الأحد 07 يونيو 2015م الموافق 20 شعبان 1436هـ
يا فرج الله
الشهامة والثبات في الموقف لحماية بيوت الله لا يريدون لها أن تبقى
حتى العواطف الحرة والنبيلة يريدون أن يقبروها
السر في الجنون
سنظل مجانين بالعقل الذي يهدي إلى نصر مثالي.
مصر
تعالوا نبني البلد
كلنا في قارب واحد س وش وأما منصب يعطى لذا وآخر لذاك لاينتشل البلد من محنته وإلاغير ذلك السجن أحب لنا فلنكن مجانين إذا".