إن حكايات العنف النفسي والجسدي الصادمة التي يُكشف الغطاء عنها صدفة أو تنشر عبر الصحافة ووسائل الإعلام، تمثل قمة الجليد في قضايا العنف ضد النساء، لكنها ليست كذلك بالنسبة لأدعياء التدين والأخلاق وحراس الدين والمنظرين ممن ينكرون انتشارها كظاهرة، كما لا يتعاملون معها فعلياً بصفة الاستعجال ويتحايلون في تنظيراتهم وحتى في تسميتها وتوصيفها وشرح أبعادها ومخاطرها الحقيقية على المجتمع.
منذ أكثر من عشرة أعوام والجهات الأهلية المعنية بمعالجة العنف لاتزال تنشط للإسراع بإصدار قانون «الحماية من العنف الأسري»، لاسيما وأن «مسودة القانون» والمطالبات بضرورة تشديد العقاب على مرتكبي جرائم انتهاك العرض والاغتصاب بتعديل المادة (353) من قانون العقوبات، ما برحت تدور تائهة بين أروقة البرلمان وتنظيرات المستشارين والمستشارات منذ 2007، علماً بأن المادة تنص «على أن لا يحكم، بعقوبة على من ارتكب أية جرائم هتك العرض، أو الاغتصاب إذا عقد زواج صحيح بينه وبين المجني عليها، فإذا صدر عليه حكم نهائي يوقف تنفيذه، وتنتهي آثاره الجنائية بمجرد إنجاز عقد الزواج مع الضحية»، ما يعني لجوء الجاني إلى الزواج من الضحية للإفلات من العقوبة، وغالباً ما يقوم بالطلاق فيما بعد، ما يفسح المجال لتكرار تلك الجريمة مع ضحايا أخريات.
إن حالة الفراغ التشريعي وغياب القانون يرافقها من أسف تنكر لحجم العنف وعدم تسمية جرائمه بأسمائها، لاسيما المتعلق منها بانتهاك العرض وفعل الاغتصاب وزنا المحارم، فعلى الرغم من انتشار العنف كظاهرة ورصد حالاته المختلفة التي بلغت حد محاولة قتل الضحايا من النساء، فإن التلكؤ واللف والدوران لاستعجال إصدار القانون أو تعديل بعض التشريعات ذات العلاقة، لايزال سيد الموقف حيث المبررات الإنشائية تتعدد، فمن اختلاف حول تعريف مفهوم العنف حيث ترى بعض الجهات «ألا يقتصر تعريفه في القانون على الأنثى فقط، بل يشمل جميع أفراد الأسرة»؛ و»أن تحل عبارة «المعنف أسرياً» محل عبارة «المعتدى عليها»، باعتبار أن الاعتداء قد يقع على المال وليس بالضرورة على شخصه؛ إلى مطالبة البعض الآخر بإدخال القاصرين من الذكور في المظلة الحمائية للقانون، إلى تمييع توصيف العنف وتحديد حجمه واجترار الحديث الممل بأن الموجود لدينا يمثل فقط حالات عنف لا ترقى لمستوى ظاهرة.
وفي السياق، ها هو البرلمان بغرفتيه يوافق على حذف المادة (18) المستحدثة في مشروع «قانون الحماية من العنف»، وهي المادة المعنية بعقوبة الإيذاء النفسي باعتبار إن «إلغاءها جاء على خلفية صعوبة قياس وإثبات الأذى النفسي؛ بسبب عدم وجود متخصصين في هذا المجال» تماماً كما ذكروا، والسؤال: أحقاً تفتقد البلد للمختصين النفسانيين القادرين على تحديد حجم الضرر النفسي الواقع على ضحايا العنف الأسري؟
إن الاعتراف بالالتزام أمام لجنة اتفاقية «السيداو» التابعة للأمم المتحدة، بإيجاد قانون متكامل يتعلق بالعنف إبراءً للذمة، لا يكفي وغير مقنع، لماذا؟ لأن ما ذكرته إحدى الشوريات بأن صياغة مسودة القانون تمت في إطار تشريع القانون البحريني الذي يراعي ويحترم وضع المجتمع، خصوصاً أن القانون تبعاً لها، يتعلق بأفراد صغار السن لا يعرفون استخدام القانون في ظل احترام الوالدين...إلخ»، يستفز السؤال بحق: ماذا عن صغار السن ممن يتم اغتصابهم والاعتداء عليهم في بيئة الأسرة ومحيطها ويحتاجون إلى حماية القانون؟
هنا لابد من استحضار ما نشر قبل أسابيع بشأن توثيق لـ43 حالة من حالات زنى المحارم منذ 2012 وحتى اللحظة من قبل وزارة التنمية الاجتماعية التي تتطلع للحصول على إحصاءات من وزارة العدل والشئون الإسلامية وغيرها تكشف حقيقة هذه الجرائم، فالإحصاءات الموثقة غير مكتملة، وهناك حالات لم تصل بعد لجهات الشكوى والرعاية، كما إن هناك كماً آخر مسجّل لدى مراكز الإرشاد والدعم الأسري في الجهات الأهلية، ومع ذلك فأعضاء المجلسين المعين والمنتخب، يرفضون المقترح بمشروع تعديل المادة (316) مكرراً في قانون العقوبات، وبنص مفاده أنه «يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن 5 سنوات كل ذكر أو أنثى واقع أحد محارمه المحرمين عليه حرمة مؤبدة وكان يعلم أو لديه ما يحمله على الاعتقاد بذلك».
لقد شرح البرلمانيون أسباب رفضهم من حيث المبدأ قائلين إن «الثابت من الاطلاع على المرئيات المرفقة بالأوراق والمقدمة من الجهات المعنية (وزارة التنمية والأعلى للمرأة) عدم قيام هذا النوع من الجرائم «زنى المحارم» بالمملكة أو ارتكابها ومن ثم، لا يوجد مبرر لتدخل تشريعي بتجريم أفعال غير قائمة، وباعتبار التشديد على أهمية الحفاظ على الأسرة التي تعد من أهم أولويات القانون، ومن ثم يتعين في الأفعال التي تكون محلاً للتجريم بشأن الأسرة أن تهدف إلى الحفاظ على الأواصر الأسرية، والقول بتجريم زنى المحارم أن وجد (لاحظوا إدارة الظهر عن الجرائم) من شأنه هدم الكيان العائلي والأسري بأكمله حسب رأيهم، وإن نطاقه يتجاوز شخص مرتكبه، مؤكدين أن ما ورد في قانون العقوبات في البابين (7و8) منه يجرم الأفعال الجنسية «الجرائم الماسة بالأسرة، الفجور والدعارة، الاغتصاب والاعتداء على العرض»، وفي هذا بالنسبة لهم ما يكفي لمكافحة هذا النوع من الجرائم.
ختاماً، إن ما يشيرون إليه من عقاب وحماية للأفراد ضد أشكال الاعتداء تبعاً لما وفره المشرّع، أثبت الواقع أنه لا يتلاءم وخصوصية جرائم العنف الأسري وتبعاته من آثار على الضحايا، فارتكاب العنف وممارسته يستحق عقوبات وأحكاماً خاصة تصف ماهية جريمة العنف وتحدد أركانها وأوصافها وحالاتها وطرق التبليغ عنها، فضلاً عن حماية ضحاياها وملاحقة مرتكبيها جزائياً ومنعهم من تكرار جرائمهم، إضافةً إلى وضع تدابير وقائية واحترازية وإصلاحية يتصدى لها قانون متخصص في حماية الأسرة، كما يجترح حالة من التوازن القانوني والحقوقي الإنساني بين أفراد الأسرة.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4656 - السبت 06 يونيو 2015م الموافق 19 شعبان 1436هـ