مرة أخرى، وخلال أسبوع واحد، يشهد الساحل الشرقي بالمملكة العربية السعودية تفجيرين إرهابيين انتحاريين، الأول أخذ مكانه في بلدة القديح بالقطيف، والآخر حدث في حي العنود بمدينة الدمام.
والتوقيت يوم الجمعة أثناء تأدية صلاة الظهر، والمكان بيت من بيوت الله، والمصلون ركع وسجود.
الجريمة الإرهابية الأولى، حدثت في مسجد الإمام علي والضحايا خمسة وعشرون شهيداً، نحتسبهم في جنة الفردوس بإذن الله، وعشرات الجرحى. والجريمة الإرهابية الثانية، في مسجد الإمام الحسين، وقد اعترضها أبطال خمسة من الشباب، خارج المسجد من الذين نذروا أنفسهم لحماية المصلين، فكان أن حالوا دون تنفيذ الجريمة داخل بيت الله. فكان أن تفجر الحزام الناسف في أجسادهم الطاهرة، ليكون مثواهم جنة الخلد.
الحدثان أخذا مكانهما في مسجدين للشيعة، والضحايا جميعهم من أتباع هذا المذهب. وكان تنظيم «داعش» قد قام بعملية مماثلة في شهر محرم الحرام، في أحد حسينيات الشيعة، في بلدة الدالوة بمنطقة الأحساء، أدت لاستشهاد سبعة وجرح العشرات، ممن كانوا يؤدون طقوس العزاء، في استشهاد الإمام الحسين بن علي.
وفي الحالات الثلاث تبنى تنظيم «داعش» الإرهابي المسئولية، عن عمليات التفجير.
لم تكن عمليات التفجير هذه، هي التفجيرات الوحيدة التي يرتكبها تنظيم «داعش»، ومن قبله تنظيم «القاعدة» بالمملكة. فقبل عدة أسابيع، وفي عمليات إرهابية متفرقة، استشهد عدد من جنودنا البواسل، وهم يؤدون واجبهم في حماية أمن المواطن واستقرار الوطن، نحتسبهم جميعاً قرابين عند الله، لحماية الوطن.
وكانت مؤسسات أمنية واقتصادية قد تعرّضت لأعمال إرهابية، من قبل تنظيم «القاعدة»، وذهب ضحيتها العشرات من الشهداء والجرحى.
الخط البياني لعمليات الإرهاب بالمملكة، يشير إلى قدرة الأجهزة الأمنية على احتواء أعمال الإرهاب. وقد نجحت هذه الأجهزة، قرابة عقد من الزمن في الحيلولة دون وقوع المزيد من التفجيرات الإرهابية. لكن السنة الأخيرة، حفلت بتغيرات استراتيجية في أهداف هذه العمليات، من كونها تستهدف المراكز الاقتصادية ومؤسسات الدولة، بهدف نشر الفوضى وتعكير الأمن، إلى العمل على تسعير الفتنة الطائفية بالبلاد.
وعلى رغم أن جميع عمليات الإرهاب مدانة، في أهدافها ونواياها، لكن أهدافها المبيتة، وما يتوقع لها من تأثير في السلم الاجتماعي هي مختلفة بالتأكيد. فالعمليات الإرهابية التي استهدفت مؤسسات الدولة والمراكز الاقتصادية، كانت عامل تصليب للوحدة الوطنية، فالجميع أدانها بصراحة، ولم يتخلف عن ركب الإدانة أحد. أما عمليات التفجير في الحسينيات والمساجد الشيعية، في ظل حالة التسعير الطائفي التي تشهدها المنطقة بأسرها، فإن هدفها وضع إسفين مسموم في الوحدة الوطنية. فعناصر التطرف، في كل الخنادق جاهزة للتسعير والتحريض باتجاه الاحتراب الطائفي. ولذلك فإن التبعات النفسية لعمليات التفجير الأخيرة، هي أخطر ما مرّت به البلاد، جراء عمليات الإرهاب والتخريب، ومعالجتها تقتضي وعياً دقيقاً، من قبل المواطنين، ومسئوليات أكبر من قبل الدولة وأجهزة الأمن.
لقد أفشل وعي جميع أبناء المملكة، وسرعة تحرّك الدولة، ومواساة ولي العهد، الأمير محمد بن نايف الذي حضر شخصياً إلى المنطقة لمواساة أسر الضحايا وأقربائهم ومحبيهم، وقطع أمير المنطقة الشرقية، الأمير سعود بن نايف لإجازته، والعودة للبلاد لمواساة أسر الضحايا، والإشراف على عمليات إغاثة الجرحى، والمراسم الملكية بتجريم الثقافة الطائفية، والانضباط الكبير، من قبل أهالي المصابين ومحبيهم... كلها أفشلت أهداف الإرهاب.
وتأكّد ذلك أثناء التشييع في بلدة القديح، حين زحف عشرات الألوف من البشر، من العاصمة الرياض ومدينة جدة، ومن مختلف مناطق البلاد، حيث تجاوز عدد المشيعين السبعمئة ألف. وتأكد للقاصي والداني استحالة تفكيك اللحمة الوطنية.
في حي العنود، بمدينة الدمام، كان مشهد صلاة المغرب في مسجد الحسين مهيباً ورائعاً، حيث شارك الآلاف من السنة أشقاءهم الشيعة في تأدية الصلاة في نفس المسجد الذي شهد ظهراً العملية الإرهابية الغادرة. وكان ذلك رداً واضحاً، من قبل الأهالي أن الإرهاب لن يجد له موطئ قدم في بلادنا العزيزة. وأن أهداف الإرهاب ستقبر بعون الله إلى الأبد، بعزيمة هذا المجتمع، وتمسكه بوحدته الوطنية، وبسلمه الاجتماعي.
ربما لا تكون عملية العنود الأخيرة في عمليات الإرهاب، وقد يعاود خفافيش الليل جرائمهم.
وقد ينجحون مرةً أخرى، في إلحاق الأذى بأجسادنا، لكنهم أبداً لن يتمكّنوا من المسّ بنفوسها، ولن يستطيعوا النيل من تماسك هذا المجتمع ووحدته.
إنها مناسبةٌ حزينةٌ، ولكنها في الوقت ذاته عامل تحريض للجميع، لمواجهة المرتكزات الفكرية للإرهاب، واقتلاعها من جذورها. وهي مرتكزات تسللت لزمن طويل إلى ثقافتنا ومناهج تربيتنا ووسائل إعلامنا، وغدت عقيدةً للكثير منا، وقد آن أوان اقتلاعها من جذورها، من أجل تثبيت وحماية يقيننا، وأمن بلادنا واستقرارها، وحمايتها من عبث العابثين. وينبغي أن يكون حاضرنا في عقولنا وضمائرنا، إن التفريط في الوحدة والسلم الاجتماعي سيفتح أبواب جهنم علينا، ومعه لن يكون لنا مستقبل أو وجود. ومشاهد القتل والتدمير وتفكيك الكيانات الوطنية، في عدد من البلدان العربية، هي أصدق دليل على ذلك.
ليس من وسيلةٍ لهزيمة الإرهاب، سوى استبدال ثقافة التكفير والتطرف بثقافة المحبة والتسامح، وفتح البوابات للعقل ليمارس دوره بعيداً عن النصوص الجامدة، والثقافة الراكدة. فهي وحدها التي سترفد رجال الأمن في معركتهم الظافرة بعون الله لإلحاق الهزيمة النهائية بالإرهاب والإرهابيين.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4654 - الخميس 04 يونيو 2015م الموافق 17 شعبان 1436هـ