جاءت العملية الانتحارية الإجرامية التي ارتكبها عضو في تنظيم «داعش» الإرهابي في مسجد الإمام علي بالقطيف الجمعة قبل الماضية، والتي تبعتها حتى كتابة هذه السطور، عملية ثانية الجمعة الماضية في مسجد الإمام الحسين بالدمام، وارتكبها مواطن إرهابي آخر من «داعش»، لتؤكّدا مجدداً وبشكل قاطع، أن مواطني دول مجلس التعاون باتوا جميعاً على كف عفريت، بسبب هذا التنظيم الإجرامي. فأينما حلوا ورحلوا داخل أوطانهم أضحوا كمن يسير على حقل ألغام مجهول، مهددة مجاميعهم وتجمعاتهم بأية عملية انتحارية جديدة في أي مكان.
وعلى الرغم من خطورة الحادثين، فإن ردود الفعل الإعلامية الخليجية من العملية الأولى الأسبق والأكثر في عدد الضحايا، كشفت تفاوتاً واضحاً في مدى جدية تعاطي دولها مع الحادث، فمن إدانة قوية بأشد عبارات التنديد متناغمةًً مع التعامل الأمني الحازم مع الجريمة كما هو الحال في النموذج الإعلامي السعودي، إلى تغطيات موسعة في إعلام بعض دول المجلس، إلا أنها غير شاملة لكل صحافتها، وتتراوح بين التنديد الشديد اللهجة إلى التنديد الخجول كما هو الحال في دول خليجية أخرى، إلى تنديد شكلي فج وخجول وتبريري للجريمة بشكل فاقع لافت، بل وعدم التورع عن تحميل المكوّن الذي ينتمي إليه الشهداء الضحايا مسئولية ما وقع! ناهيك عن الغياب شبه الكلي للتغطيات الصحافية.
ولعل النموذج الإعلامي البحريني هو الأبرز في هذا الصدد، هذا على الرغم من أنه ينتمي إلى بلد هو الأقرب جداً للدولة التي وقع فيها الحادث جغرافياً ورسمياً وشعبياً. كما يمكن القول أيضاً إن النموذج الإعلامي السعودي هو الأبرز بين كل النماذج الإعلامية الخليجية في التعامل مع حادثي القطيف والدمام بمنتهى الحزم والقوة، في التنديد بالجريمة والجناة والتنظيم الإرهابي الذي ينتميان إليه (داعش).
وقد تجلى كل ذلك في التغطيات الموسعة للصحف السعودية التي أفردت للحادث عدة صفحات يومياً طوال أكثر من أسبوع، بما في ذلك لقاءات مطولة متعدّدة مع ذوي الضحايا والشهداء، ونشر صور مؤثرة للضحايا قبل استشهادهم، وتحقيقات أيضاً حول أدوار القتلة والخلايا التي ارتبط بها المجرم الانتحاري في العملية الأولى ونشر صورته، وصورة الإرهابي الذي أخفاه بحجم كبير على صدر الصفحة الأولى لبعض هذه الصحف. كما قامت بتغطية موسعة بالكامل وعلى عدة صفحات لمسيرة تشييع جنازات الواحد والعشرين شهيداً المهيبة المنظمة في القطيف وقُدّرت بنصف مليون مشيع. ولعلها أضخم مسيرة تشييع جماهيرية مهيبة في تاريخ المملكة العربية السعودية.
كما اهتمت الصحف السعودية بتغطية زيارة الوفود الخليجية لتعزية المصابين، وأبرزها زيارة وفد مجلس الشورى العماني، كما اتسمت ردود فعل بعض كبار المسئولين ومراسلي بعض القنوات الفضائية الرسمية السعودية تجاه العتابات الحارة التي وجّهها لهم وجهاً لوجه ذوو الشهداء، لما تتضمنه المناهج الدراسية وبرامج تلك القنوات التحريضية والمنابر الدينية من تكفير المكوّن الذي ينتمي إليه الشهداء وتحريض على قتل أبناء هذا المكوّن برمته... نقول اتسمت ردود أفعالهم أولئك المسئولين بالتعقل والتفهم.
وقد أجمعت مقالات الرأي للصحافة السعودية، بصرف النظر عمّا تضمنه أكثرها من إقحام لأطراف إقليمية في مسئولية ما وقع، على التنديد بشدةٍ، بالجريمة الإرهابية وأبعادها وتبعاتها الخطيرة في المنظورين الحالي والمستقبلي. (انظر على سبيل المثال لا الحصر تغطيات ومقالات صحف «الحياة»، «الشرق الأوسط»، «الوطن، في الفترة من 23 إلى 28 مايو 2015).
وعلى العكس من ذلك، فإن النموذج الإعلامي البحريني، والغالبية العظمى من صحافته، كان شبه غائب تماماً عن الحدث، بل وحتى مقالات الرأي المحدودة العدد، غلب عليها تبرير الحادث على الرغم من وقوعه كما ذكرنا، في بلد على مرمى حجر من وطنها، حتى بدا الحادث وكأنه وقع في كوكب بعيد من الكرة الأرضية. وتم تجاهل أخبار زيارة مئة من كبار العلماء السنّة السعوديين لمجلس العزاء بالقطيف.
في بيان جدة الذي وقّعت عليه كل دول مجلس التعاون الست ومصر والعراق والأردن ولبنان والولايات المتحدة في سبتمبر/ أيلول الماضي، والذي شكّل لاحقاً الركيزة الأساسية للتحالف العسكري للهجوم على مواقع تنظيم «داعش» في العراق وسورية، نصّت إحدى فقراته المتعلقة بوضع استراتيجية شاملة لمواجهة «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام»، على أن من مقومات هذه الاستراتيجية رفض ايدلوجيات الكراهية لدى الجماعات الإرهابية. بيد أن تجربة التسعة شهور الماضية منذ صدور البيان، برهنت بقوة أن دول المجلس لم تولِ أي اهتمام فعلي يُذكر بهذا الجانب، على رغم أهميته الفائقة لمواجهة «داعش»، اللهم إلا إسهامات ارتجالية محدودة غير منهجية من قِبل بعض الصحف السعودية والخليجية، فيما بدا بعضها الآخر غائباً كلياً عن هذه المهمة غير مكترث بها، وعلى الأخص النموذج البحريني. ولعل هذه أغرب مفارقةٍ تحدث في تاريخ الحروب في العالم، فلم يحدث قط أن شنّ تحالف عسكري من مجموعة دول حرباً ضد عدو مشترك محدّد، تراخت دوله أو بعضها عن استخدام السلاح الإعلامي ضد هذا العدو نفسه ليصول ويجول في ساحاتها الداخلية على مرأى وسمع من سلطاتها كما يحلو له، مقتصرةً على المشاركة بالأسلحة النارية، وتحديداً الغارات الجوية على مواقع «داعش»، فمن نافلة القول إن السلاح الإعلامي لا يقل أهميةً عن السلاح العسكري، بل في كثير من الأحيان يكون أداةً حاسمةً لهزيمة العدو إذا ما اُجيد استخدامه وفق خطة إعلامية مدروسة جيداً، باعتباره وسيلة للحرب النفسية الرامية لتحطيم معنويات الخصم وشل قدراته على التعبئة البشرية. عدا ذلك فإن «داعش» استمر طوال التسعة شهور الماضية في تعبئة وتجنيد المزيد من المراهقين والفتيان المغرر بهم في عقر دار معظم الدول الخليجية لحضهم على تنفيذ المزيد من العمليات الإرهابية. وما وقوع العمليتين الأخيرتين إلا برهاناً على عدم إيلاء الدول الخليجية الموقّعة على بيان «جدة»، للفقرة المتعلقة بمكافحة ايدلوجية الكراهية لدى التنظيمات الارهابية ومنها «داعش»، أي اهتمام إعلامي، ما سهّل لـ «داعش» تنفيذ عملية القطيف ثم عملية الدمام، والحبل على الجرار.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 4651 - الإثنين 01 يونيو 2015م الموافق 14 شعبان 1436هـ