المؤرِّخ والرحَّالة الاسكتلندي، المدير السابق للمركز الدولي للدراسات العليا والنشر في جامعة ستيرلينغ في اسكتلندا، أندرو ويتكروفت، وقبل كل شيء هو واحد من أوائل الباحثين الذين استخدموا التصوير في كتابة تاريخ الشرق الأوسط، وفي ما يتعلق بكتابه «البحرين في الصور الأصلية «1880-1961»، الصادر عن دار كيغان بول الدولية - لندن ونيويورك، وتم نشره للمرة الأولى في العام 1988، تكمن أهميته في ما يشبه «البورتريهات» التي قدَّمها عن الأمكنة والزمن والناس والحياة أيضاً، في فترة متقدمة من تاريخ البحرين، قبل قيام المؤسسات الحديثة فيها. بورتريهات للحياة بتفاصيلها؛ الحكَّام والشيوخ، التجّار، ثروة البلاد الأولى (اللؤلؤ)، ومن بعدها النفط، ومن مرّوا هنا من البلاد البعيدة، القلاع، العلاقات الممتدة مع حكَّام وزعامات، زيارات أولى إلى عاصمة الضباب، المدن في تمددها البطيء، المنازل الصيفية (البَرَسْتَيْ) وفي لهجة أخرى (البرستج) التي يشترك فيها الأغنياء مع الفقراء مع ارتفاع درجة الحرارة، الأمراض، الأسواق ببضائعها البدائية والشحيحة، العيون، المنائر والمساجد، المقاهي، التعليم؛ رحلات القنص، موضوعات الريادة في المنطقة من النفط إلى المستشفيات، ومراكز العزل الصحي، إدارة المرور وتنظيمه مع ازدياد أعداد السيارات، إلى المطار والاتصالات. يقرأ ويتكروفت طبيعة الحكم الذي أمسك بزمام الأمور في عملية التحديث تلك، والخبرات التي اكتسبها حكَّام البحرين بحكم طبيعة العلاقات الوطيدة بالغرب.
الكلام الكثير يتحدَّد في التعريف بالكتاب والذي كان بمثابة مقدمة تفصيلية عن تاريخ البحرين القديم، وارتباطها بالحضارات المحيطة بها في المنطقة، وإطلالة على مراحل تسجيل بداية التحولات في تاريخها الحديث.
تتصدَّر الكتاب صورة لسمو الشيخ عيسى بن علي، الذي يعتبر أطول من بقي في الحكم لفترة تجاوزت الستة عقود؛ وليس قياساً بالزمن الراهن؛ بل حتى بزمن الاشتغال على كتابه وإصداره. في تعليق ويتكروفت على الصورة، يشير إلى الملك عبدالعزيز آل سعود الذي وصفه بالأب «ليس فقط لمنطقة الخليج، ولكن للعالم العربي».
لا جديد في معلوماته
لا جديد في الكتاب من حيث المعلومات التي وردت فيه؛ إذ يستند فيه ويتكروفت إلى مصادر سبقته، وقليل من معلوماته جاءت بالمعايشة، والوصول إلى مصادر المعلومات والأرشيف الذي سبقه إليه كثيرون. الإحصاءات هي الأخرى، المتعلقة بحجم تصدير الإنتاج الأول من النفط في سنة استخراجه ليست جديدة. المقدمة في حد ذاتها تلك احتلت المساحة الكبرى من نص الكتاب تمتلئ باستشهادات وإحالات بالنص لبلغريف وغيره. الرجل محترف كتابة في ضوء الصورة؛ وذلك ما تشهد به سيرته العملية.
الصورة هي التي تبرز أهمية الكتاب. صور غاية في القِدم، يمتد بعضها إلى قرابة قرن وأكثر. معظم الصور غير متاح في المطبوعات التي صدرت بالعربية. بعضها أتيح ولكن برداءة في وضوحها.
يَرِدُ في مُفتتح كتاب ويتكروفت عدد من الإيضاحات التي تتعلق بجانب من الاعتبارات الفنية من جهة؛ والتاريخية من جهة أخرى. الأولى تتعلق ببيان واقع بحسب تعبيره يرتبط بـ «أن البحرين دولة عربية، ولم تكن مستعمرة من قبل أي قوة أوروبية. ذلك مجرد بيان للواقع، حتى لو بدا بعض الأوروبيين يجهل ذلك في بعض الأحيان».
إقحام «الاستشراق»
وفي اختياره الصور التي تظهر على صفحات كتابه، يقول: «بحثت دائماً عن تلك الصور التي تساعد على أن تحكي تاريخ البحرين» «بعض الصور هي لقطات بدلاً من أن تكون أعمالاً فنية، ولكن ينبغي أن تجد لها مكاناً في كتاب من هذا النوع».
يحضر مفهوم ومصطلح الاستشراق ذلك الذي قعَّد له البروفيسور إدوارد سعيد؛ لكنه هنا في حال إقحام ساذج لا رابط موضوعياً له في تناول ويتكروفت. وهو هنا يتحدث عن زوار عابرين حين يشير إليهم «بأن رؤيتهم»، وليسوا في وارد بحث وتفرُّغ ونظر؛ وإن كان من بين أولئك عدد من الباحثين؛ ولكنهم في عداد العابرين على الأرض؛ نظراً إلى زمن ارتباطهم ببشر المكان والتفاصيل والعناصر المرتبطة بكل ذلك. ذلك نصاً ما ورد في مفتتح كتابه «الآن، هل ترددتُ في التعبير مطولاً؛ كما هو الحال مع وجهة نظر وليام جيفورد بلغريف الفريدة عن البحرين في ستينيات القرن التاسع عشر؟ ولكنني كنت أيضاً على علم بأن رؤيتهم تخيم عليها أحيانا مسحة ثقافية تلك التي سمَّاها إدوارد سعيد (الاستشراق)».
للصورة سحرها وتنشيط الذاكرة أيضاً. الأرشيف يظل ذاكرة مركونة. لا تكون كذلك حين يتم تناولها وتوظيفها. لا تعود أرشيفاً. إنها جزء من ذاكرة اللحظة وما بعدها. ربط ضروري بما كانت عليه وما هي فيه. جزء من ذاكرة المستقبل.
يشير ويتكروفت إلى أن الكتاب هو نتاج مبادرة فريدة من نوعها. جميع الصور القليلة جداً، تلك التي تم إنقاذها جاءت من بحرينيين أحضروها إلى أرشيف الصور الفوتوغرافية في مديرية التراث والمتاحف.
«خلقت مبادرة تسليم الصور الفوتوغرافية ربما أشمل مجموعة للصور الوطنية في المنطقة؛ أو في الواقع في أي أرشيف في العالم يتعامل مع المنطقة».
مثل تلك المبادرة لا مكان لها اليوم - على الأقل - بذلك التوجه الذي كانت عليه. ما لدى الناس من أرشيف اليوم ربما يعادل عشرة أضعاف ما بادروا إلى تسليمه. بعضه يحكي تاريخاً خاصاً، لكنه لا ينفصل عن الفضاء العام لتاريخ البلد.
صار احتفاظ كل بأرشيفه مسئولية وطنية أيضاً. لم يعد أحد قادراً على احتكار المسئولية وفضائها.
يظل الأرشيف ناقصاً إذاً
يحرص ويتكروفت، على تنويه القارئ إلى ما يشبه الصعوبات التي واجهته في طريق وضع كتابه، يوجزها في عدد من النقاط الفنية. «أولاً هناك مشكلة كتابة الأسماء العربية إلى الحروف اللاتينية. ونظراً إلى أن هذا الكتاب معنيٌّ بالبحرين، فقد اعتمدت أسلوب الإملاء الذي يعكس الاستخدام في الجزر.
ثانيا في ما يتعلق بتاريخ التصوير الفوتوغرافي؛ فقد تم نسخ جميع الصور في هذا الكتاب من النسخ الأصلية، ولكن لسوء الحظ لا تفاصيل فنية للمصور، وكذلك السياق أو الدولة». نحن أمام أرشيف يمكن أن نطلق عليه بالناقص. تفاصيل مثل تلك تتعلق بالصورة، من التقطها، ما موضوعها. هل كانت في الكتاب أم تمَّ استبعادها؟ لا يمكن أن يكون ذلك قد حدث وإلا لما كانت هنالك ضرورة لإيراد ملاحظة حولها. ما حدث أن اجتهاداً ما حدث في التعليق على الصورة. في الكلام عنها وعليها. قد تختلط التواريخ أيضاً.
تكرار عبارة «منتصف العام كذا»، و «أواخر العام كذا» يجعل الصورة في أكثر من زمن ربما. الشهور في التعليق على الصورة نادر، باستثناء تلك التي تحمل طابعاً رسمياً في احتفال رسمي. ذلك تاريخ لا يمكن إغفاله.
وجوه كثيرة في الكتاب لم تحمل أسماء. بورتريهات بعضها معروف للمشتغلين في هذا الحفر والحقل، أو حتى للمتابعين. الكتاب لم يوضع لمحترفين في هذا المجال؛ على الأقل بالصيغة التي كتب بها، وبالأسلوب الذي تم اعتماده، وهو بالمناسبة، أسلوب تسجيلي وتوثيقي، ولا يخلو من المبالغات في جوانب من تعليقاته.
المقدمة... المنهج... النفط
موضوعات الكتاب ليست متسلسلة، وإن جاءت - تحايلاً - تحت تصنيف يحمل كل منها عنواناً. لكنه عنوان فشل في تحقيق وحدة للموضوعات. سترى الشخصيات الرسمية والوطنية وصناعة السفن. ستجد التقاليد العربية، والافتتاح الرسمي لمصفاة النفط، أو مأدبة عشاء؛ باستثناء العنوان الذي اختصت صوره بالفترة التي حكم فيها سمو الشيخ سلمان بن حمد بن عيسى بن علي. فقد جاءت منتظمة بحسب موضوعاتها، والطابع الذي تحمله الصور.
يشير ويتركروفت في المقدمة التي احتلت مساحة كبيرة من الكلام في الكتاب، إلى أن «زوار البحرين على مدى قرون، كل علَّق في كثير أو قليل بالطريقة نفسها على تجربتهم في الجزر. كان الانطباع الأول، هو وضوح العالم، مشوباً بدهشة. وجاء ذلك الوضوح من وصول آمن بعد رحلة مرعبة (غالباً). كانت المفاجأة أن وراء الواجهة البحرية المتواضعة يمتد بلد مختلف تماماً عن البلاد القاحلة لجيرانه».
في المقدمة نفسها يضيء ويتكروفت أرقاماً تتعلق بحجم الإنتاج النفطي الأول في العام 1934؛ مُعرِّجاً بعدها على مقارنته بدول الخليج وإشارة إلى احتياطاتها.
«بلغت كمية أول نفط خام يتم تصديره 40 ألف طن في العام 1934؛ لتصل إلى أربعة أضعاف ببلوغها 170 ألف طن في العام 1935، وأربعة أضعاف تقريباً مرة أخرى في العام التالي. وبحلول أواخر العام 1930 استقر الناتج عند مليون طن سنوياً. الأرباح الأكبر تكمن في شحن المنتجات البترولية المكررة، والتي كانت قيمتها أكثر من ذلك بكثير واحتلت في حجمها الحجم نفسه في الشحن. واكتمل أول مصنع صغير، مع قدرة على تكرير نحو 10 آلاف برميل من النفط الخام يومياً، في العام 1937، ولكن الطلب كان كبيراً لدرجة أن مصنعاً ثانياً تم بناؤه على الفور إلى جانب الأول. مع الطاقة الاستيعابية للمصنعين تمكّنا من تكرير 25 ألف برميل يومياً».
مشيراً إلى أنه «قبل اندلاع الحرب، كان مجمع سترة للتكرير ينتج 33 ألف برميل يوماً بعد يوم».
وصولاً إلى مقارنة حجم الاحتياطي النفطي «كان واضحاً في أواخر خمسينات القرن الماضي، أن احتياطي البحرين من النفط كان ضئيلاً مقارنة مع الدول المجاورة لها: 32 مليون طن، مقابل 1350 مليون طن في أبوظبي، 8480 مليون طن في الكويت، 8045 مليون طن في المملكة العربية السعودية. وفي مطلع العام 1960، بدأت البحرين بالفعل عملية باتجاه التنويع في المداخيل».
يُنهي القارئ المقدمة ليبدأ الاشتغال الذي عُرف به ويتكروفت: الصورة. وليس بعيداً عن الموضوع الذي تناوله في آخر مقدمة الكتاب (النفط) «بدأ تدفق النفط في جزيرة سترة في العام 1935. وبحلول موعد زيارة ولى العهد السعودي الأمير سعود بن عبدالعزيز، تم توسيع المصنع الأصلي لاستيعاب التدفق المتزايد للنفط». كان ذلك التعليق على صورة يظهر فيها الشيخ حمد بن عيسى مع ضيوفه في زيارة لأول مصنع للنفط في الجزيرة العربية».
وبالعودة إلى المقدمة أيضاً نقرأ كلاماً عن زيادة كبيرة في الشعور بالوطنية، مع نهاية الحرب العالمية الثانية «جاءت نهاية الحرب أيضاً بزيادة كبيرة في الشعور بالهوية الوطنية في عديد البلدان. وكان استقلال الهند في العام 1947 العلامة الأكثر وضوحاً، ولكن كان هناك أيضاً شعور بالهوية العربية والإسلامية أقوى بكثير في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. في إطار ذلك نبعت الأهمية الاقتصادية الجديدة في منطقة الخليج، مثل دول أخرى في المنطقة تطورت مواردها النفطية. البحرين كمركز تجاري رئيسي وكذلك الأمر بالنسبة إلى الاتصالات، توجهت على الفور في هذه العملية واتجاهاتها. تم إرسال مندوبين إلى التجمعات العربية الدولية والمؤتمر الإسلامي، في حين زار مسئولو دول أجنبية البحرين».
في الجزء الثاني من استعراض الكتاب سيتم تناول الزيارة التاريخية للجواهرجي الفرنسي كارتييه للمحرق، والبيوت البحرينية والأسواق، وتطوير المنامة، إضافة إلى مطار البحرين وهبوط أول طائرة. وفي جانب الصحة نستعرض الحجر الصحي في حالة بوماهر، والبعثات التعليمية المصرية والعراقية إلى البحرين، ودخول البحرين عصر السيارات بكثافة، وتطور قانون المرور، وغيرها من الموضوعات.
العدد 4649 - السبت 30 مايو 2015م الموافق 12 شعبان 1436هـ