يجتهد المخرج المسرحي حسين العصفور في مسرحية «فوضى» مع طاقم العرض من ممثلين وفنيين لإعادة تقديم مسرحية «الكراسي» للكاتب الشهير يونسكو يوجين ونقلها من صيغتها النقدية اللاذعة سياسياً إلى صيغة اجتماعية، فإلى أي مدى استطاع المخرج تقديم «كراسي يوجين» في صورتها الجديدة التي أرادها. وهل استطاع إلباسها الرداء الذي أراد وإخراجها من كونها تمثل أدب «العبث واللامعقول» إلى انضوائها في خدمة رسالة اجتماعية منحازاً إلى طبيعة شخوص المسرحية لا إلى رؤيتها الفكرية على الأقل، والتي تتلخص في إيمان يوجين نفسه بلا جدوى هذا العقل الذي يقود العالم إلى الحروب وإلغاء الآخر، ومن هنا يأتي انحيازه إلى العبث واللامعقول علَّه يحدث هزة في هذا العقل المسيطر الذي يقود إلى محق الإنسان وسحق آدميته.
تحت رعاية هيئة البحرين للثقافة والآثار قدم مسرح أوال مسرحية «فوضى» لمخرجها حسين العصفور والمأخوذة عن مسرحية الكراسي ليونسكو يوجين، وشارك في تقديم شخصيتي المسرحية الأساسية كل من حسن العصفور في دور الزوج، وريم ونوس في دور الزوجة ومجموعة من الممثلين في دور الخطباء، وذلك مساء يومي الإثنين والثلثاء 18-19 مايو/ أيار 2015م على مسرح الصالة الثقافية بحضور جمهور المسرح والفنانين، ومجموعة من المثقفين والأدباء والمهتمين.
المبادئ أم الوجاهة
تتلخص المسرحية في حكاية الزوجة اللحوحة التي تحلم بأن يصبح زوجها مديراً بأي طريقة، حتى لو كان ذلك عن طريق الغش والاحتيال والتزلف لأصحاب المناصب العليا، بعكس الزوج وهو صاحب المبادئ والقيم، والحالم بتغيير العالم. بهذا التناقض بين الزوجين ينشأ الصراع بينهما في وتيرة متراوحة بين الصعود والهبوط، وهو ما صنع شيئاً من الانشداد في بداية العرض، فمرة يجاريها على أن يقدم رؤيته للآخرين، ومرة تجاريه شرط أن يصبح عليهم مديراً، وهو ما تحلم به، فتكمن في رأسه فكرة أن يصوغ رؤيته وخلاصة تجربته في شكل خطاب يلقيه على النخبة وعلى رأسهم الكولونيل والرجل المحترم في إشارة لعلية القوم، ويستأجر خطيباً لهذه المهمة ويدعو الجميع لمنزله وتوافق الزوجة ويحضر المدعوون في صيغة إيهامية من خلال كراسي فارغة تتوزع بتزاحم على صالة العرض. لكننا في نهاية المسرحية نتفاجأ أن الخطيب الذي حضر متأخراً كان أبكم ولا يستطيع الكلام أوإبلاغ مراده، وبل وعلى رغم أن الخطيب يتحول إلى مجموعة من الخطباء المتنوعين من مهرجين وموسيقيين وغيرهم بحسب رؤية المخرج مخالفاً النص الأصلي الذي كان فيه الخطيب شخصاً واحداً، فإن هؤلاء الخطباء وعلى رغم كثرتهم وتنوعهم لا يستطيعون إيصال شيء من الخطاب، أو إبلاغ رسالته. وتنتهي المسرحية بهذه الفوضى اللامتناهية، وهكذا يتعوم الخطاب ويكون لا قيمة له، بل لا مستمعين له أصلاً، وكل ما هنالك مجرد كراسي فارغة ليس فيها من أحد سوى ما أوهمنا به أنفسنا، فلا خطاب ولا رسالة ولا حتى مستمعين.
من صراع إلى تواؤم
في هذا العرض المسرحي تتكثف مجموعة من الرسائل جراء مجموعة من السياقات الفنية لعل أولها على مستوى الحبكة الدرامية وضوح لعبة الصراع المقلوب في المسرحية بين مجاراة الزوج لزوجته في بداية العرض في سرد الحكايات على رغم تململه من تكرارها، في مقابل مجاراتها له في نهاية المسرحية كونه سيدعو عِليَة القوم ويلقي عليهم خطابه، وفي ظنها أنه بهذا الفعل سيصبح عليهم مديراً ويحقق أمنيتها. وهكذا يتحول الصراع بين الزوجين المتناقضين في الشخصية والمختلفين في المبادئ إلى تواؤم ومجارة ففي مقابل مجاراتها له في البداية ها هي تجاريه في النهاية وتستقبل الضيوف الوهميين وتعد لهم الكراسي، بما يمكن من قسمة العرض إلى قسمين مفصليين، حيث نرى لعبة تبادل الأدوار في صناعة الحدث ما بين البداية والنهاية، والركون إلى بعضهما من أجل تحقيق هدف واحد وهو تبليغ الخطاب.
صراع مقلوب
تبدأ المسرحية بشيء من الإشارة إلى روتينية الحياة اليومية في طلب الزوجة من زوجها سرد الحكايات لها فيرد عليها «كل يوم تطلبين الحكايات نفسها ألا تملين» متماهياً مع صيغة ألف ليلة وليلة في سرد الحكايات. ولكن تبدو تلك الصيغة هاهنا مقلوبة أيضاً، حيث يصبح الزوج سارداً والزوجة مسروداً لها، فيكون هو شهرزادها وتكون هي شهرياره، فيقتل رغبتها بسرد الحكايات. وعلى رغم تململه من هذا الروتين المعتاد فإنه يبدأ في مجاراتها ويسرد لها الحكايات المتكررة نفسها من سبعين سنة. وفي الوقت الذي تقود الزوجة زمام الحدث المسرحي في بداية العرض بجعل الزوج يسرد الحكايات تنقلب الصورة ويصبح الزوج في نهاية العرض هو مالك الزمام وهي منفذة لطلبه في استقبال الضيوف ترتيب المكان.
وفي مقابل عنصر الروتين المتكرر في بداية المسرحية بالإشارة إلى سرد الحكايات نفسها بالشخوص والأحداث نفسيهما، ها نحن نجد روتيناً آخر مقابلاً له في نهاية العرض على مستوى الفعل المسرحي، وهو تكرار دق الجرس ودخول ضيوف جدد وهميين واستقبالهم وتقديم الكراسي لهم، في تقابل آخر بين بداية المسرحية ونهايتها، وهذا ما يؤكد على أن في المسرحية مجموعة من التقنيات الخفية ربما يتم الالتفات لها كلما تأملنا العرض بعيون فاحصة وباحثة عن الدلالة.
لا جدوى للعزلة
الخلاصة التي تخرج بها من هذا العرض تكمن في لا جدوى العزلة المتمثلة في نقد يونسكو يوجين لقدرة الإنسان على التحكم في الآخرين والتأثير عليهم وتغيير نمط حياتهم بمجرد خطاب واحد، حيث إنه على رغم الإعداد الطويل للخطاب في الجزء الأول والتبشير به، واستقبال الضيوف المهمين والاتفاق مع خطيب لتقديم رسالة الخطاب، على رغم كل ذلك فإن الخطاب لم يصلهم ولم يبلغهم شيء منه، بل لم يكن المخاطبون موجودين من الأساس إلا في ذهن الزوج، وهذه إشارة إلى عدم قدرة العزلة على صناعة التواصل والتأثير في الآخرين.
العدد 4648 - الجمعة 29 مايو 2015م الموافق 11 شعبان 1436هـ