تهتم ألمانيا بعلم المسكوكات بقدر اهتمامها بالاستشراق، وقد ظهر في القرن الـ18، ثم نما هذا الاهتمام في القرن الـ19 بنمو علم الدراسات الشرقية والإسلامية، مما دفع كثيرا من المعاهد المهتمة بعلم المسكوكات والنقود القديمة لشراء مجموعات من المسكوكات كجامعتي يينا وبرلين اللتين كانتا تمتلكان المجموعات الملكية، يضاف إليهما ما كانت تملكه جامعة توبينغن حتى عام 1867، وهو نحو 500 قطعة ومعظمها ملك للمستشرق الألماني البروفسور إرنست ماير ، وفق ما ذكرت صحيفة الشرق الأوسط يوم أمس الأربعاء (27 مايو/أيار 2015).
ومع أن عدد المسكوكات قليل، لكن العلماء انكبوا يومها على دراستها، إلا أن طبيعة هذه القطع لم تشجعهم على مواصلة التعمق بالبحث والتحليل، لأنها كثيرة التنوع والاختلاط، ومتباينة الأزمنة، وليست فيها أعداد كافية من القطع النقدية ذات العلاقة المترابطة، وبالتالي تراجع الاهتمام بعلم المسكوكات الإسلامية مع أواخر القرن الـ19، إلى أن أيقظت هذا الاهتمام مرة أخرى جامعة توبينغن قبل نحو 25 عاما، ذلك لأنها حصلت على أكثر من 30 ألف قطعة نقدية إسلامية قديمة ضربت في عصور وأزمنة مختلفة، كثير منها متسلسل التواريخ، مما يسهل عمليات البحوث. وكانت هذه الثروة القيمة ملكا لجامع المسكوكات الإسلامية والمختص بالدراسات الإيرانية الأميركي ستيفن ألبوم، وكان شغوفا جدا بالنقد الإسلامي القديم، ويقال إنه كان يقصد كل مكان يسمع بأن فيه مسكوكات إسلامية قديمة معروضة للبيع كي يشتريها. وبهذا أضاف المعهد في توبينغن هذا الكم الوفير والمهم في المسكوكات إلى ما يملكه أصلا ليضاف إلى الـ5000 صورة لنقد إسلامي قديم.
وبسبب ما تملكه من نقد ويتعدى عدده الـ65 ألفا، منها 3 آلاف قطعة نقدية من الذهب الخالص الذي يعكس بشكل منهجي المسكوكات الإسلامية، أنشأت الجامعة عام 1990 معهدا لبحوث علم المسكوكات يشرف عليه اليوم البروفسور الألماني لوتس إيليش الذي أضاف مجموعة المسكوكات التي يمتلكها إلى مجموعة الجامعة، ومنذ ذلك الوقت، تقام في المعهد سنويا عدة أنشطة تجمع كل ما توصل إليه علماء علم المسكوكات والنقد الإسلامي القديم من معلومات لتضاف إلى أرشيف المعهد الذي يعد اليوم مرجعا مهما لكل باحث وطالب في العلوم الإسلامية بعد امتلاكه أهم مجموعة من الملفات والمخطوطات الشرقية والإسلامية بخط اليد تحتوي على معلومات عن المسكوكات القديمة.
والكميات الكبيرة والمتكاملة إن من حيث الأزمنة أو التسلسل، تجعل معهد الدراسات الشرقية في توبينغن ثالث أكبر مالكي المسكوكات الإسلامية القديمة في العالم بعد متحف «إيرميتاج» الروسي في سان بطرسبورغ، و«الجمعية الأميركية للمسكوكات الإسلامية» في نيويورك.
مسكوكات مميزة
والمميز في المسكوكات الإسلامية والعربية هذه أن بعضها يحمل عبارات وكلمات يصل عددها إلى أكثر من مائة كلمة صغيرة جدا، منها ما يحمل اسم دار السكة، وعام الضرب، أو عبارات دينية مثل التي ضربت قبل العهد العثماني، إلا أن العبارات الدينية أكثر شيوعا كالشهادتين والبسملة، كما حفرت في مسكوكة ذهبية سلجوقية من أواسط آسيا أسماء الله الحسنى التسعة والتسعون.
ويمكن قراءة اسم الحاكم واسم الخليفة الذي يدعى له في صلاة الجمعة، مما يوفر معلومات عن الفتن وما صاحبها من تغييرات سياسية في هذه الحقبة أو تلك. والأسماء التي تحملها المسكوكات تعطي أيضا معلومات عن أصحاب الأمر ومناطق نفوذهم، فقد كان هؤلاء يحرصون على أن تأتي أسماؤهم على القطع النقدية وكذلك على أن تذكر أسماؤهم في صلاة الجمعة، فعلى سبيل المثال، توجد مسكوكة من شمال إيران مضروبة في أواخر القرن العاشر تحمل اسم الخليفة العباسي وأسماء من دونه من أولي الأمر.
ويضم الكنز قطعا نادرة منها سورية وعراقية وأفغانية وهندية وسندية من الذهب والفضة والنحاس، ومن أهم ما سُك في أيام المغول قطعة ضربت في تفليس بين عامي 1243 و1244، لكن من أندرها ما ضربه العرب في الأندلس، وهو درهم من عهد علي النصري أمير غرناطة بين عامي 1464 و1484. تضاف إلى ذلك قطعة نادرة أيضا، وهي دينار فضي من جرجان بإيران من عهد الأيلخان أولجايتو عام 1313 – 1314، ودرهم شيرازي يحمل تاريخ السك عام 1018 تظهر في نقوشه درجة الأناقة التي بلغها الفن الإسلامي يومذاك، وقطعة أخرى نقشت عليها صورة الأمير الارتقي قره أرسلان من حصن كيفا الواقع على نهر دجلة ويعود تاريخها إلى عام 1164، ولقد ظهرت الصورة على مسكوكات شمال الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر.
وتشهد قطع نقدية تعود إلى القرنين التاسع والعاشر على ما عم جزيرة كريت من ازدهار اقتصادي حين أتي إليها العرب، عبر الرسوم التي تحملها، وهناك دينار من عهد الخليفة أبو زكريا يحيي (أبو زكريا يحيي بن حفص) مؤسس الدولة الحفصية في تونس (1203 - 1249) وصارت هذه العملة منذ منتصف القرن الـ13 قدوة للأوروبيين في ضرب العملة.
وأهم الخطوات التي قام بها المعهد بعد امتلاكه هذه المجموعة الثمينة والضخمة، فهرستها بهدف تسهيل عمليات البحوث التي بدأت تزداد مع ازدياد اهتمام الطلاب الألمان والأوروبيين بالثقافات والحضارات الإسلامية. لكن الفضل الكبير في عملية الفهرسة يعود إلى الأميركي ستيفان ألبوم الذي أراد أن يسهل على نفسه القيام بدراسات علمية على ما يملكه من مسكوكات، وبعدها باعها إلى جامعة توبينغن.
ولم يساهم الأميركي ألبوم عبر فهرسته في إظهار القيمة العلمية لهذا الكنز الثمين فحسب؛ وإنما أبرز الأوجه في قيمة المجموعة، وهي أن قطعها قد جاءت متسلسلة من الزمن الإسلامي لبداية سك النقود العربية، إلى العصور التي أصبح فيها ضرب النقد آليا. والملاحظ أن مجموعة توبينغن تحوي مسكوكات من كل العصور، ومن كل دور السكة الإسلامية، كما تحوي قطعا قد أعيد ضربها في زمن المسيحية، لذا يمكن القول إن المجموعة متكاملة وتمكن الباحثين من متابعة إلقاء نظر عميق على فترات المسارين السياسي والاقتصادي لفترة زمنية طويلة، وتعطي مادة لمقارنة المناطق المختلفة بعضها ببعض، ففيها مثلا نحو 500 قطعة مضروبة في سمرقند مع تسلسل تواريخها من عام 193 إلى 1020 وتعود إلى زمن السلاجقة في أواسط آسيا، مما يوفر للباحث جوانب دقيقة من تاريخ هذه المنطقة لم يتناوله الباحثون، خاصة بعد ضياع كثير من المستندات والوثائق، فهذا المسكوكات تتحدث عن أخبار حكامها في تلك الفترة الطويلة.
إلى جانب ذلك، أصدر المعهد 31 مجلدا عن علم المسكوكات الإسلامية، وخصص لكل مجموعة من البلدان بعض المجلدات؛ مثلا للهند والسند وسنغستان، ويواصل إصداره المقالات العلمية التي يخلص فيها ما كتب من معلومات جديدة عبر الدراسات التي تجرى، ويعتزم إصدار قوائم للحكام العرب والمسلمين حسب البلدان والمدن والمناطق التي حكموها، مع توفر آلاف الشرائح المصورة للمسكوكات.