في كثيرٍ مما نفعل، في كثيرٍ من سلوكنا، في كثيرٍ من تعاملنا، نصنع أعداءً لنا... كأننا بذلك أعداء لأنفسنا. الغضب واحدٌ من أولئك الأعداء الذين كثيراً ما نصنعهم. بذلك الاندفاع والحساسية المفرطة والتهور وعدم تقدير الأمور والمواقف.
يخرجنا الغضب من حالات الاتزان إلى حالات الاضطراب التي تكلّفنا الكثير، وقد تكلّفنا أعمارنا أحياناً. وإن لم نخسر حياتنا بسبب الغضب سنخسر قدرتنا على إقناع من حولنا بأننا معذورون في كل مرة يكبر ذلك الوحش داخلنا فيقضي على علاقات وروابط ومودة. نكون عرضةً للنبذ والعزلة وتجنّب الناس لنا، درءاً للنتائج التي تأتي من ورائه.
أول جرائم القتل التي ارتكبها الإنسان وإن اتفقت المصادر على أنها حدثت بسبب الغيرة، لكن الذي وقّع على صكّ ذلك القتل هو الغضب. غضب أخٍ من أخيه فقتله بعد غيرة.
وليس مبالغةً القول، بأننا أعداء أنفسنا بذلك الغضب الذي لا نستطيع السيطرة عليه أو على الأقل التخفيف من حممه وجحيمه الذي يأكل الأخضر واليابس. لحظات ربما لا تتعدى الثواني في تقدير الأمور والنتائج يمكن أن تجنبنا عناءً ومشكلاتٍ وانقساماً وضياعاً أيضاً. تلك الثواني هي القادرة على لجم ذلك الوحش القابع فينا. بمحاولتنا حرف مسار الحديث أو السبب الذي أدّى بنا إلى التفوه بكلامٍ لا قدرة لأيٍّ منا على تمييزه وإخضاعه لميزان العقل والأخلاق. إذ صوت الغضب يكون أعلى، وحين يكون كذلك، كل صوت بعدها لا فرصة له أن يُسمع أو يُنتبه إليه.
ولعل في قصة الحكيم الهندوسي مع تلامذته عبرة، ذلك أنه شهد صراخاً على أحد الأنهار نشأ عن غضب بين بعض تلامذته، وتساءل أمامهم: لماذا ترتفع أصوات الناس عند الغضب! أعطى بعضٌ منهم إجابات، ليوضح هو: عندما يغضب شخصان يتباعد قلباهما كثيراً. ووصل الحكيم إلى الاستنتاج بنصيحة قال فيها: عندما تتناقشون أو تتجادلون لا تدعوا قلوبكم تتباعد. لا تتفوّهوا بكلمات قد تبعدكم عن بعضكم بعضاً أكثر، وإلا فإنه سيأتي ذلك اليوم الذي تتسع فيه تلك المسافة بينكم إلى الدرجة التي لن تستطيعوا بعدها أن تجدوا طريقاً للعودة.
في البيت تُدمّر العلاقات وتتسع الشروخ بفعل الغضب، وفي الشارع بسبب الاختلاف على أولوية المرور والسير. وفي العمل بسبب اختلاف الأمزجة بين الموظف وبعض المراجعين. حتى الدول لا تنشأ بينها الأزمات إلا بفعل سوء الفهم والاستعجال واللعب بالاستنتاجات، فتنشأ الأزمات بسبب كلام غاضب لا تقدير فيه لعواقب الأمور. أزمات بين الدول قد تتحوّل إلى كوارث وحروب.
وخير خلاصة تتمثل في حكمة بالغة للإمام علي (ع) نصها «مقتل المرء بين فكيه»، هي أروع ما يختصر كل ما ورد أعلاه وكل ما أورده أساتذة الأخلاق والتربية وعلم النفس. المسافة بين أن يحكم الإنسان سيطرته وأن يتهور ويندفع بحمق. بين أن يصمت بحكمة وتعقل وبين أن يفتح فمه حيث ينفتح معه الجحيم.
وإذا كان في الغضب خسارة ربما لبشر عابرين قد يصبحون أصدقاء يوماً، تأتي الخسارة الكبرى حين يكون ضحايا ذلك الغضب أخوة وأخلاّء من الذين امتدت العشرة معهم عمراً طويلاً، وفي ذلك كلام لسيد البلاغة الإمام علي في إحدى روائعه »أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم»، وذلك هو العجز، وتلك هي أم الخسارات. قاتل الله الغضب، ذلك الوحش الذي كثيراً ما نمهّد له الأرض كي يقيم بيننا.
مفتتح ومختتم ذلك، لا غضب يمكنه ضمن تعاملنا على الأرض وفي الحياة أن يثمر مودةً وائتلافاً وصلاحاً في الحياة. سيثمر المرارات والندم والعزلة... وما هو أكبر من ذلك. إنه الوحش الذي لا قلب له.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 4643 - الأحد 24 مايو 2015م الموافق 06 شعبان 1436هـ
بوركت
بارك الله فيك مقال. يحكي الواقع