فاقد الحسِّ والشعور بالكرامة، ذلك الذي لا يُريد أن يفهم ماذا يعني أن يعيش الإنسان حراً، وحده من لا يرى في التمييز البغيض خطراً عليه؛ كما هو خطر على سواه؛ وإن كانت المصالح والغنائم المؤقتة التي يحظى بها تكاد لا تُذكر في حساب الحسِّ والشعور بالكرامة.
السلطات في العالم الثالث، بكل إرث التخلُّف، وبكل الفساد، وبكل المحسوبيات، وبكل عقائد ومناهج التمييز البغيض والتفريق، وتقسيم البشر إلى فئات، وبكل سياسة التجويع التي تتبعها، ترمي في ما ترمي إليه، إلى تحويل قسم كبير من مواطنيها إلى شعوب مُضطرة في عيشها، وتكاد تتيقن بألاَّ معنى لذلك العيش؛ مادام حبل السرَّة لديها مُرتبطٌ بتلك السلطات، وما تتفضَّل به عليها! فإن لم تمدَّها بحاجاتها التي أصبحت «عَلفاً» مع طول الممارسة وإدمانها، وتحوُّلها إلى عُرْف، ستموت جوعاً، وستضطر إلى إبداء مزيدٍ من الخضوع والانبطاح و»الانشكاح»، و»الانشكاح» بالمناسبة مفردة دخلت اللغة المعاصرة أو قاموس اللهجات في الشارع المصري، وهو «حالة بين الفرحة العارمة والامتلاء والانتصار. ويمكن حصره في حدود الإحساس لا علاقة له بالعواطف أو المشاعر»؛ كي تضمن تغذيتها من حبل السرَّة، وعليها ألاَّ تنمو؛ ليس على مستوى بنيتها الجسدية وقوَّتها؛ بل على مستوى بُنْيَتها في الوعي والإدراك، ومعرفة ما يدور من حولها.
مثل فاقد الحسِّ والشعور والكرامة ذاك، هو واحدٌ من نماذج تعطيل الحياة وإفسادها في العالم ما قبل الصفر؛ وليس «العالم الثالث» كما شائع. النموذج إياه هو المغذِّي لروح الاستبداد التي تتفاقم، وممارسات القمع التي تحتدُّ، والتمييز الذي يتطاول ويتشعَّب ويتجذّر. ذلك النموذج هو الذي دفع بالحياة في هذا الجزء من العالم إلى أن تتحوَّل إلى جحيم عملاق له بدايات، ولكن لا نهايات له. والنموذج نفسه هو الذي يُوصد الأبواب أمام كل محاولات أي تغيير للواقع الفاسد بتشكيله أرضية قبول وتأييد لمن يقفون وراء كل ذلك البلاء والوباء.
ذلك لا يعني أن الذين اتخذوا من الصمت منجاةً لهم؛ بل دِيناً ومنهج حياة، ليسوا مسئولين عن جزء كبير من الكوارث في تفاصيل حياة الناس. فظاعة جريمتهم لا تقل عن ذلك الذي رهن نفسه ولا يخجل من التشرُّف بعبوديته لمن هو عبد مثله مادام مخلوقاً، ويخضع لقوانين الفيزياء وتحوُّلات وتبدُّلات الكيمياء، ويعجز، ويهرم، ويوارى القبر يوماً من الأيام.
العبيد التقليديون في التاريخ، هم من صنعوا الإنجاز المديني، وهم من تحمَّلوا شقاء وعذاب تدشين وإقامة البنية التحتية في المجتمعات والحضارات التي تعاقبت، وفي معظم الأحيان، كانوا وقوداً للإختلالات والاضطرابات التي تنتاب تلك المجتمعات والحضارات أيضاً.
ثمة عبيدٌ تقليديون ساهموا ويساهمون اليوم في تدمير ذلك الإنجاز المديني، بالتهديد الذي يمارسونه ويعمِّقونه في المجتمعات التي يتواجدون فيها؛ ولا يخلو مجتمع منهم؛ بصيغة قبولهم للسياسات التي تهدم ولا تبني، وتعمّق الشروخ ولا تحاول احتواءها، والمساهمة في تكريس الفساد وتنشيطه لا الحدّ منه والعمل على إنهائه، والاطمئنان لكل تلك الممارسات، والذين يقفون من ورائها، ويرون عدالة وأحقية ما يقومون به ويمارسونه.
كل ذلك إعاقة للدور الحضاري الذي يمكن لأي أمة أن تبلغه وتصل إليه. حجر عثرة هُم في طريق الانتقالات والقفزات التي يمكن لها أن تحدث؛ ماداموا على انسجام مع النقيض لها، في ظل مصالح يقنعون أنفسهم بأنها مضمونة التحقُّق، ومغانم هي برسْم الدفع والتوصيل المجاني؛ إذا ما استمروا في أداء أدوارهم المُخزية والتي يروْن أنها «مُجْزِية»؛ والثبات على مواقفهم في عبودية تأخذ أشكالاً، وتأتي بوجوه وأوضاع الذين يرسفون في أغلال كالتي نعرفها في العبيد التقليديين الذين ربما كانوا أكثر مباشرة بفائدة العمران وامتداده الذي طال شرائح كبرى في مجتمعاتها، بينما العبيد الجُدُد يسهمون في تآكل الحياة وصورها؛ بدءاً بالعمران؛ وليس انتهاء بالبشر! وفي كثير من الأحيان، هم عالةٌ على المجموع البشري بأسْره في محيطهم.
لم تتغيَّر الصورة؛ بل العكس، ازدادت سوءاً وتعميقاً لمعاناة القاعدة العريضة، فبقدر ما ساهم العبيد التقليديون في البنية المدينية؛ ساهموا في الوقت نفسه في صلابة بنية السلطات وقتها بذلك الاصطفاف غير المشروط؛ مع ملاحظة ألاَّ حول ولا قوة لهم بطبيعة الوقت، وأنشطة السوق التي تتاجر في قواهم وصلابة بنْيَتهم كبشر.
في المقابل، نحن إزاء عبيد جُدُد ساهموا بحالتهم التي نشهد في تجميل سياساتٍ تتخذ البنية التحتية ستاراً لتفوُّقها؛ هذا إذا وُجدت بنية أساساً. يُسهم أولئك - في صورة وأخرى - في تأخُّر مستويين من حياة البشر: مستوى حقوقهم التي لا يستقيم بتأخُّرها تقدُّم على أي مستوى كان، ومستوى المحيط الذي يتحرَّكون ويحيَون في وسطه.
تفوَّق العبيد الجُدُد على نظرائهم التقليديين، يتحدَّد في أنهم يبحثون عن العبودية تلك نظير منافع وأموال يتقاضونها، وذلك ما لم يحدث مع الأُوَل؛ إذ كان التقليديون يَحْيَون على ما يسدُّ رمقهم، دون حقٍ في المطالبة بأجر نظير جهد غالب في الحياة وقتها.
يُضاف إلى ذلك، أن العبيد التقليديين مع مرور الوقت، ينالون نظير جهد استثنائي أو مواقف، صكوك حرياتهم؛ وينطلقون في الحياة بموجب تلك الصكوك، مثلهم مثل بقية خلق الله، احتراماً واعترافاً بتلك الصكوك؛ فيما عبيد اليوم ليس من مصلحتهم تلك الصكوك، وشرْعة العالم اليوم وقوانينه - الظاهر منها على الأقل - تُحرِّم وتُجرِّم العبودية في شكلها المباشر؛ فبات من باب الفطنة والمصلحة والمصادفة «السعيدة» ألاَّ يكون هناك وجود لمثل الصكوك تلك؛ ما يعني دوام العبودية الاختيارية، ودوام المصالح والمغانم؛ ذلك إذا كانت تلك المغانم ذات قيمة، أو تُذكر في كثير من الأحيان!
سلامٌ على عبيد الأمس الذين لم يملكوا خياراً؛ بفعل بدائية محْضة، وبفعل حروب وغزوات، واتِّجارٍ في الخلق، وتحويلهم إلى سلعة ومُنْتَج. ويصعب السلام على العبيد الجُدُد؛ أولئك الذين من تلقاء أنفسهم تشبّثوا بعبوديتهم، ولم يكتفوا بذلك: يريدون لمن لم يستغْنِ عن حريته أن يلحق بركْب الخذلان والصَغار الذي أَلِفُوه وانسجموا معه!
كأن عبوديتهم هي الحرية التي يقاتلون من أجلها؛ ويرون حرية الآخرين إبحاراً ضد التيار الآسن الذي ارتضوه نهجاً ومسار حياة، إن كان ثمة حياة في ذلك، وإن صحَّ أن يُطلق عليه مسمَّى النهج!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4643 - الأحد 24 مايو 2015م الموافق 06 شعبان 1436هـ