العدد 4641 - الجمعة 22 مايو 2015م الموافق 04 شعبان 1436هـ

العرب وعبدالرحيم يبدعان منحوتات راسخة وحروفاً متجاورة

في معرضهما بـ «جاليري البارح»

في معرض «حروف ونحت» المقام في جاليري البارح للفنون التشكيلية، والذي يستمر حتى 27 مايو/ أيار 2015، تتجاور مجموعة من اللوحات التشكيلية الحروفية للخطاط عبد الإله العرب في بهاء ووقار، مع مجموعة من المنحوتات البديعة للفنان جمال عبدالرحيم، في تواؤم فني يكاد يصهرهما في روح واحدة.

حيث قدم العرب 20 لوحة حروفية بأحجام مختلفة اعتمد فيها على الطباعة وتداخل الحروف وجرأة الألوان في ثنائية تبرز إيقاعاً متماثلاً ينتقل بالحرف من مستوى الإبهار المهاري إلى تأويل الشكل في سياقه الفني الجديد، أما عبدالرحيم فقدم في المعرض 37 منحوتة فريدة اشتغل فيها غالباً على التجريد وأحيانا على المباشرة. وتراوحت المنحوتات بين أشكال الطيور والحيوانات والوجوه بما يبرز عنصر الصلابة والثبات والشموخ وتحدي الكتلة الصماء والقدرة على إعادة تشكيلها بحسب الرؤية الفنية والمخيلة المبدعة.

أسهم كل من الفنانين العرب وعبدالرحيم بتعدد مداخلهما للعمل الفني نحتاً وتشكيلاً، بتقديم رؤية فنية تبرز قدرة المبدع على إعادة تشكيل الحرف الأصيل وتقديمه في نسق يبعث على دلالة فنية أخرى كما عند الخطاط العرب، وقدرة الإنسان المبدع في التحكم بالطبيعة وإضفاء جمالية أخرى عليها كما عند الفنان عبدالرحيم، بما منح المتلقي فرصة للاستمتاع بالجمالية الأخاذة التي تكمن في أعمال هذا المعرض المشترك لكل من الفنانين، والإضافة إلى رصيدهما الفني بتجربة جديدة تثري منجزهما على مستوى الإبداع.

العرب... رصانة وتداخل

في مجموعة الأعمال التي أنجزها العرب تبرز سمتان أساسيتان هما الوضوح والتداخل، سمتان على ما بهما من تضاد إلا أنهما أكثر دلالة على تواشج الشكل بالمضمون، والظاهر بالباطن، في روح واحدة ممتلئة بالتأويل مسرجة بالمعنى، مأنوسة بالمفارقة، ففي الوقت الذي تتسم الحروف بوضوحها ودلالتها على المعنى يلعب الفنان على عنصر التكرار والتداخل فيمنح اللوحة طلاقة أخرى حيث الغموض الدال على أفق آخر من المعنى الذي ربما يعاضد روحها ومعناها السابق، بما يشكل تجاوراً بين المعنى والمبنى ويسهم في إعادة إنتاج الدلالة من جديد.

في هذه اللوحات ينتقل العرب من رصانة الحرف والتزامه بقواعده الكلاسيكية الأصيلة وهي لعبته الأساسية التي طالما أنجزها بإتقان ورسوخ قدم، ونال فيها قصب السبق، إلى لعبة أخرى تفتح له من التأويل ما يشاء المتلقي؛ حيث تجتمع الطباعة مع الألوان فتمنح الحرف قدرة أخرى على المفارقة والانتقال من مستوى الانبهار بالشكل والتمكن من المهارة إلى مستوى الأنس بالتأويل في أفق مفتوح هو أفق القراءة الثانية، بما يؤكد على قدرة المبدع على صناعة إيقاع آخر بعد الانتقال بالحرف من سياق المهارة إلى سياق اللون والطباعة.

تمر بين اللوحات فتجد ثنائية أخرى، هي ثنائية الأبيض والأسود، حيث يقف اللون الأسود متعاضداً مع اللون الأبيض في إبراز الحروف بما يمنح اللوحة كل هذا الألق المرصود كموسيقى متوازنة وإيقاع مستمر. وتواصل تأملك فتجد في بقية اللوحات ألواناً أخرى تشكل الثنائية نفسها بالدلالة نفسها، حيث تشكل ألوان الحروف في اللوحة كتلة لونية في مقابل كتلة أخرى يتوسطهما عمودان ممتدان بطول اللوحة بما يعزز اللعبة الثنائية نفسها والتضاد الإيقاعي على مستوى اللون والتشكيل.

وباللعبة الثنائية نفسها على مستوى اللون تبرز عبارة «الحق يعلو» في لوحتين مختلفتين مرة بالأحمر الفاقع وأخرى بالأصفر السطاع، لونان ملتهبان حارقان، متوازيان مع الدلالة اللغوية للعبارة «الحق يعلو» من حيث سطوع الحق وانتصاره وجرأته وظهور الحقيقة على يديه وتبدد الظلام بنوره وعلوه، وكمونه على مستوى التصميم في أعلى اللوحة. هكذا تماماً يتوازى المضمون «علو الحق» مع الشكل «سطوع الأصفر والأحمر» بما يمنح اللوحة قدرة على الوصول والإبلاغ عبر تعاضد المبنى مع المعنى.

عبدالرحيم... أرواح وأشكال

يجتهد عبدالرحيم في نحت الرخام ليشكل من هذه الصخور الميتة إلا من الزمن، حياة أخرى تضاف إلى حياتها، ومعرضاً جديداً مشتركاً يضاف إلى معارضه السابقة، إنها روح الفنان التي إذا مرت على الأشياء منحتها الحياة، إنها روح الفنان التي ترى بين الصخور الميتة المهملة حياة كامنة، ورحلة أخرى ممكنة. وهكذا دائماً ينتشل الفنان الحيوات المتعددة من وسط الموات المطبق، ليقول إن ثمة أملاً كامناً في الأشياء لابد من استخراجه، وحدها الذات المبدعة قادرة على ذلك، عبر الخلق والتكوين وإعادة التشكيل ومنح الأشياء قبضة من الروح.

فإذا كانت خطوط الرخام الغائرة تحمل في داخلها تاريخها، وذكرى الأرض وملامح تشكلها عبر تفاعل الزمان مع المكان، فإن الخطوط الجديدة التي يمنحها عبدالرحيم إلى هذه الكتلة الصماء إلا من الزمن تمثل تاريخاً آخر هو تاريخ الذات وهي تحلّ في الأشياء، وتتشكل في الرخام، وهو يتقلب من حال إلى حال، بين يدي الفنان، إنها مخيلته وتصوراتها وهي تقع على الصخر فتحيله إلى طيور محلقة أو حيوانات بديعة بحسب ما تذهب به المخيلة فيصوغ من هذا الصخر أشياء راسخة ثابتة متحدياً الزمن والصلابة التي بثها في هذا الرخام.

تتوزع المنحوتات في بهو الصالة بين أشكال تجريدية للطيور وأخرى للحيوانات عاكسة رسوخها وصلابتها من صلابة الرخام نفسه، عاكسة قدرة الفنان على تحدي صلابة الصخر ونحته بتمكن، وعدم تركه يمارس قهره على الإنسان ويوقفه عاجزاً، فها هو يطوع الرخام لأفكاره ويعيد تشكله بيديه كيفما شاء وتصورت مخيلته، ثم ها هو يصهر المعدن ويعيد صبه في أشكال مختلفة من طيور وحيوانات ووجوه ويمنحه البأس من بأسه الشديد وعزمه الأكيد.

لعل أهم ما ترصده العيون هذه المرة في هذا المعرض لعبدالرحيم هو توزيع المنحوتات على مستوى الشكل بين الطيور والحيوانات والوجوه، بشكل تجريدي أو مباشر، أما على مستوى المواد الخام فقد استخدم الرخام في بعض المنحوتات، وفي بعضها الخشب وبعضها المعدن البرونز، بما يعكس ميلاً للتنويع والتجريب في الانتقال من مادة إلى أخرى، ومن شكل لآخر، في هذا المنجز، ويفتح للفنان أفقاً لأعمال ومشاريع قادمة تتفرد فيها كل خامة وكل شكل بذاته.

العدد 4641 - الجمعة 22 مايو 2015م الموافق 04 شعبان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً