يبقى التعامل مع الزمن كقيمة كبرى متفاوتاً بين شخص وآخر، بين شعبٍ ونظيره. ويمكن اكتشاف الفوارق بينهما، في محصلة تعامل أي منهما معه.
يملك الإنسان أن يعطي الزمن حركته أو جموده. بمعنى أن الإنسان فارغ المحتوى، الذي لا يتقن شيئاً يظل تعامله مع الزمن عبثياً ولا يرى قيمةً له أو فيه، طالما أن كل ما يجيده في الحياة: التنفس، استخدام جزء من حواسه كي يعيش، يأكل، ينام، وفوق ذلك: يكذب، يحتال، يسرق، يؤذي. قيمة الزمن في ما يستولي عليه من تعب وجهد الآخرين، لا من تعبه وجهده... إلا إذا سمّينا ما يقوم به جهداً.
بالعودة إلى واحدٍ من المقالات المهمة في هذا الجانب، نقف على ما كتبه فائز العادة، تحت عنوان «ما هو الزمن؟»، يذكر فيه الصعوبة التي يمكن أن تتحدّد في تعريف الزمن في مجال علم الفيزياء وبشكل عميق، بعيداً عن المناهج الفلسفية حيث يكتب «تعريف الزمن في الفيزياء يكاد أن يكون أقل تعريفات الزمن عمقاً بالمقارنة مع المناهج الفلسفية المتباينة. تريحنا نسبية أينشتاين - ولو إلى حين - من عناء تصوُّر برهة زمنية مطلقة بالغة الامتداد وَهَبَها استيلاد الكون للحياة. ففي النسبية، لكلِّ مرجع مكانُه وزمانُه، والزمان والمكان موجودان بقدر وجود المادة».
ذلك كلام لابد من العروج عليه، وليس هو موضوع المقالة، فإيراده هنا كشاهد لتحديد الأكثر شيوعاً في الصعوبة تلك، وهو تعاملنا مع الزمن، واستثمارنا له، والأخذ بالوقت باعتباره الأرضية الأخرى مقابل المكان، ذلك الذي يتيح لنا أن ننجز ونبتكر ونشيع ثقافة السلام وفعله، وننأى بأنفسنا عن القلاقل والحروب والنزاعات والفتن. كل ذلك لا يتم بعيداً عن الزمن؛ إلا إذا دخلنا في مرحلة تجميده، وفي ذلك تجميد لكل حركة في الحياة. وبمعنى أكثر مباشرة: لن توجد حياة بعدها كي نتحدث عنها.
كل التباينات والفوارق التي نشأت بين أمة وأخرى، بين شعب وآخر، بين شخص والمقابل له، هو أن الزمن/ الوقت كان عاملاً يحدّد الفوارق في الوعي والإنجاز الحضاري، أو العكس من ذلك: التخلف والتراجع والإنكفاء، والإدمان على الاستهلاك بشكل مريع.
في أوروبا وأميركا وبعض دول آسيا: اليابان، كوريا، الصين، سنغافورة، وفي أميركا الجنوبية: البرازيل الأرجنتين وغيرها، هناك زمن، وعندنا في الشرق الذي يمثل قمة التراجع، وذروة الاستهلاك، واستقبال ما تنتجه عقول استثمرت الوقت وجيّرته، هنالك زمن/ وقت أيضاً، ولكنه في جموده واحتضاره، وانعكس ذلك على الجمود والاحتضار الذي يحكم الحياة في الشرق. قيمة أو امتداد الزمن في بلد، يختلف عنه في بلد آخر. اليوم بسنة مما نعد ربما، والسنة ربما بيوم في مكان آخر.
بعد الدمار الشامل الذي مسّ البنية التحتية في أوروبا وبعض دول آسيا من جراء الحرب العالمية الثانية، لم تحتج بعض تلك البلدان سوى إلى عقود قليلة كي تنهض من تحت الركام وتستأنف مشاريعها العلمية والبحثية والصناعية. ألمانيا ليست الشاهد الوحيد على المعجزة التي حققتها بعد أن اجتمع عليها العالم لردع عدوان هتلر، لتتصدر اليوم دول العالم، ولتتحوّل إلى خزينة إمداد وتمويل للدول التي ضربتها الأزمة المالية العالمية، وأفلست خزائنها. كذلك الحال مع اليابان بترتيبها المتقدم على قائمة أقوى الاقتصادات في العالم، دون الحاجة إلى ذكر النمور الآسيوية التي بدأت من تحت خط الفقر، وصارت نداً قوياً، ودخلت نادي الاقتصادات العملاقة.
مصر في مطلع القرن الماضي كانت من الدول الصناعية الكبرى، وكان أطباؤها يسدون حاجات بعض الدول الأوروبية، صارت اليوم ضمن الأسواق الاستهلاكية الكبرى في العالم، بالمعنى السلبي للاستهلاك، لا الاستيعاب.
إنه الزمن الذي يحدّد عظمة أمة من انحطاطها بالتعامل معه والوعي بأهميته.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 4641 - الجمعة 22 مايو 2015م الموافق 04 شعبان 1436هـ