ثمة أمكنة تضمُّنا ونحن في يأس، ربما من مرض، ونريد أن نموت؛ لكنها تُحيِّدنا ريثما تتضح لنا روح المكان، فنذهب في الاتجاه المعاكس من الخيار: نريد الحياة. تلك أمكنة ممتلئة بالروح. نعم، لبعض الأمكنة روح، بتلك الألفة والحب والدفء الذي يثير شعوراً لدى أي منا بأننا التقيناها، أو التقتْنا!
ثمة أوقات تضمُّنا ونحن في الذروة من الأمل؛ لكنها سرعان ما تنعطف بأمزجتنا نحو النقيض. نتورط في مساحة مخيفة من اليأس؛ هكذا يجثم على صدورنا من دون سابق إنذار؛ ولا نملك له تفسيراً! تلك أوقات نحن طارئون عليها؛ أو هي طارئة علينا؛ أو هكذا يبدو الأمر. ومثل تلك الأوقات، ربما لم تجد في أرواحنا ما يشي ويشير إلى إمكانية أن نضيف إلى ما حولنا.
ثمة بشر يملكون قدرة عجيبة على انتشال أي منا من حال الضياع والعدم؛ وحتى الإحساس بالتفاهة. ينتشلوننا من أمكنة الهامش التي نعتقد أننا إليها ننتمي. تلك التي التهمت أرواحنا، والتهمت قدرتنا على صوغ رؤيتنا الخاصة، ومن ثم صوغ رؤيتنا إلى العالم؛ بحيث نستطيع أن نكون على تماس مع تفاصيله، وصنع تلك التفاصيل. لأننا أبناء الحياة!
وثمة بشر على النقيض، يعلموننا بالمجَّان طريقة تسللنا من هذا العالم، وإن امتلأ بنا. كأنْ لم نكن. يدفعوننا باتجاه التاريخ الذي جئنا منه، ولم تكن لنا يد في صنعه. يسلخوننا من الحاضر؛ بل من اللحظة، مهما كانت تافهة وفارغة، إلى حيث الأتفه والأكثر فراغاً. أولئك بشر هم بعدد الهمِّ على القلب. ذلك إن كان لنا قلب كي تصنع منِّا الهموم بشراً قادرين على المواجهة والفعل الخلَّاق. لأننا - لحظتها - لسنا أبناء الحياة!
وثمة كتابة تقودنا إلى اكتشاف ذواتنا. ذواتنا التي يُراد لها أن تكون منكسرة أمام التحديات التي لم نختبرها؛ أو تلك التي اختبرناها فعُدْنا بالنكوص؛ ربما لأننا لسنا في وارد أن نكون طرفاً في المواجهة، بذلك الانكشاف على العجز والتفرُّج، والذهاب في التمنِّي حدَّ المرض. كتابة مثل تلك تمنحنا القدرة على الانسجام مع أنفسنا. تمنحنا فضاءات احتياطية ليست في حدود الافتراض؛ بل هي فعلاً كذلك، بالتغيُّر الذي يطول كل شيء على ارتباط بنا، أو نحن على ارتباط به.
وثمة كتابة تأخذ بأيدينا إلى ما دون بدائيتنا. تربك ما ترسَّب فينا من وعي بدائي هو الآخر. كتابة لا أثر يدل عليها. هي المحْو إن أردتَ. كتابة تقيم في الساذج والعابر والذي لا يمل التكرار، والتلقين ونسخ ما حولنا في أسوأ درجاته! كتابة لا تقولنا ولا تقول الناس؛ وهي أعجز عن استنطاق الأشياء بالضرورة!
كتابة، تمنحنا يقينها انطلاقاً من الوهم؛ والقوة من الهشاشة والتآكل، وتعدنا بالهدى وهي متورطة بالتيه والضلال، وستأخذ بأيدينا إلى المقابر لتقنعنا بأنها بيت الحياة.
بين بشر وبشر، وكتابة وكتابة، ذلك الخيار الضروري لتحديد موقع ومركز كل منا في هذا العالم؛ والدور المنوط بنا، والفعل الذي يجب أن نؤديه، والرؤية التي نقترحها لتحصين العالم/ عالمنا من البدائية التي تُمرَّر إلينا، والسذاجة التي لنا حصة مفروضة منها، وعلينا أن نقبل بها، بمنطق الذين يحرصون على حصانتهم على حساب حصانات الآخرين! ولن يحدث ذلك ما لم نقرِّر: إما أن نكون أبناء الحياة أو لا نكون!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4641 - الجمعة 22 مايو 2015م الموافق 04 شعبان 1436هـ