فَغَرَت «داعش» فمها تبغي التهام مدينة تدمر التاريخية. كانت المسافة بين أنيابهم والمدينة لا تزيد عن كيلومترين فقط. بمعنى أن غبار التاريخ الممتد كان قد علا وثار على وقع خَبَبِ الخيول الغازية. قدَّر الله ألاَّ يقع المحذور. تقهقر البرابرة على أعقابهم، وبدا الطوق الذي يُسوِّر المدينة أكبر ويتمدَّد. ابتعد الخطر لكنه لم ينحسر تماماً. فالمنتقمون من التاريخ ما يزالون يتوقون إلى قطع قوافل التجار، وسَبْي «زنوبيا» بعد أن توسَّدت التراب منذ ما يزيد عن الـ 1741 عاماً.
لن أتحدث عن ظروف ما جرى من قعقعة سلاح قبل أيام في هذه المدينة، الواقعة بين شمال دمشق وحمص ونهر العاصي، فالكل قرأ وشاهَد، لكنني سأتحدث عن جانب تاريخي قد يكون أهم، وقد يُشجِّع الكثيرين على إدراك حقيقة هذا التاريخ العظيم الذي تحويه منطقتنا العربية (والذي تحدثنا عن جزئه الموجود داخل بلاد الرافدين في صفحات «الوسط»، 23 مارس 2015، العدد 4580). وهو في الحقيقة تاريخٌ لا يُقدّر بثمن لأنه يعكس شخصية الحضارات التي مرَّت ويُفسِّر هويتنا في حاضرنا.
عندما تغوص في كتب التاريخ يزيدك ذلك إيماناً بما نملك، وفي الوقت نفسه يزيدك ألماً وأنت ترى أوباشاً يريدون تخريب ذلك الإيمان والثروة. لقد ذكر الحموي في «معجم البلدان» أن تدمر سُمِّيت بذلك نسبة إلى «تدمر بنت حسان ابن أذينة بن السميدع بن مزيد بن عمليق بن لاوذ ابن سام بن نوح» النبي. بينما ذهب مؤرخون آخرون إلى أن اسم تدمر هو من الأسماء السامية، التي يرجع ظهورها إلى حقبة الملك الأشوري تجلات بلاسر الأول وذلك في حدود 1116 – 1090 ق. م. وقد قيل إن اسم تدمر هو «النطق الآرامي لكلمة تتمر العربية، ومعناها المدينة التي يكثر فيها التمر والنخيل».
وإذا ما تأكَّد هذا التحقيب فهو يعني بطلان رواية انتساب بنائها لنبي الله سليمان كما ذكرت بعض الوثائق اليهودية، حيث أن فارق الحقبتين الآشورية وتدوينات العهد القديم سبعة قرون تقريباً كما توصل إلى ذلك بعض الباحثين، وبالتالي يستبعد أغلب المؤرخين هذه الفرضية. لذلك فإن ما ذكره ابن الفقيه في البلدان ووصفه لـ «تدمر» بأنها «عجيبة البناء، كثيرة الصور والتماثيل»، وتضم «داراً فيها مقاصير وأروقة وحجرات وإيوانات»، فإنها من عمل الآشوريين، أو ربما للقيصر طيباريوس حاكم الرومان والذي كانت تدمر تابعةً له، ولعموم دولة الرومان.
لكن هنا أيضاً ملاحظة تاريخية مهمَّة يجب الإشارة إليها عندما يتم الحديث عن «تتمر العربية»، وهي أن الآثار التي وُجِدَت في تدمر ورغم الكتابة الإرمية التي كُتِبَت بها إلاَّ أن الآثار العربية فيها (أي مدينة تدمر) واضحة كالأصنام المسمَّاة بأسماء عربية، وما الكتابة الإرمية إلاَّ ثقافة كانت سائدة بعد سقوط الدولة البابلية، وكان العرب قد تأثروا بها. وينتهي بعض المؤرخين إلى أن هناك ثقافة متداخلة كانت تسود تدمر قامت على «العربية والإرمية واليونانية واللاتينية».
أما عن أهمية هذه المدينة فإنها نابعةٌ من أنها كانت أحد أهم المناطق التي تمرّ عليها القوافل من عمق الأراضي العراقية وآسيا الصغرى وفارس والهند. وقد ذكر لطفي عبد الوهاب في كتابه «العرب في العصور القديمة»، أن الطريق الخامسة كما وصفها هي امتداد «لطريق تجارية تبدأ من الرمادي على نهر الفرات إلى شمال غربي بغداد وتسير بمحاذاة النهر حتى ماري mari قرب أبوكمال الحالية على القسم الشمالي من نهر الفرات من ناحية الصحراء، ثم تمتد غرباً إلى تدمر، ومن تدمر تمتد غرباً بميل طفيف إلى الشمال الغربي إلى حمص، ومن هناك تتفرع إلى عدة فروع تصل بين حمص من جهة والموانئ الفينيقية ودمشق وفلسطين من الناحية الأخرى، وفي الواقع فإن هذه الطريق كانت حلقة الوصل فيها هي مدينة تدمر».
بل إن محمد بيومي ذهب إلى أبعد من ذلك في «تاريخ العرب القديم» بالقول إن تدمر «كانت نقطة التقاء التجارة القادمة من أسواق العراق، وما يتصل بها من أسواق في إيران والهند والخليج والعربية الشرقية، وبين تلك التي على البحر المتوسط، وبخاصة في الشام ومصر، فضلاً عن اتصالها بالعربية الغربية وبأسواقها الغنية بأموال إفريقيا والعربية الجنوبية والهند». ثم يقول: «وبخاصة فيما بين القرن الأول قبل الميلاد، والعام 273م»، كما دلَّت على ذلك النقوش الموجودة فيها.
ويصف المؤرخ العراقي الكبير جواد علي تدمر بأنها كانت «عقدة من العقد الخطيرة في العمود الفقري لعالم التجارة بعد الميلاد، تمر بها القوافل تحمل أثمن البضائع في ذلك الوقت».
هذه الأهمية جعلت من هذه المنطقة منطقة استراتيجية جداً بالنسبة لجميع الأطراف المتصارعة. ويذكر جواد أيضاً أنه «وفي حوالي القرن الخامس للميلاد كانت تدمر مقاطعةً تابعةً لولاية فينيقية، وقد عيَّن تاودوسيوس تيودوسيوس ثيودوسيوس الثاني فرقة من الجند لحراسة تدمر». ثم يقول نقلاً عن مدوّنات الراهب إسكندر (ت 430م) أن الأخير و»أثناء سفره من الفرات إلى مصر» شاهد «قلاعاً مقامة على طول حدود الفرس والروم على مسافات تتراوح من عشرة أميال إلى عشرين ميلاً رومانيّاً، وقد قطع الحدود هذه حتى بلغ مدينة تدمر».
الحقيقة أن حماية الآثار هو مسئولية دولية. ونحن نتساءل: إذا كانت تدمر مُسجَّلة على قائمة اليونسكو منذ 25 عاماً لأهميتها، فهل يعني هذا فقط «تعظيم» و»تشريف» لهذا الأثر الثمين دون أن يكون له التزام قانوني وفعلي؟
إن المعركة الأم للعالم بأسره وللأمم المتحدة على وجه الخصوص هو حماية الآثار وليس الانشغال بالقلق والاستنكار.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4639 - الأربعاء 20 مايو 2015م الموافق 02 شعبان 1436هـ
تدمر سوف تدمّر بيد عتاة الانس وجهلة البشر
لن يبقى بشر ولا حجر ولا مدر تطاله ايدي الدواعش الا ويدمّروه ولكن من اين جاء الفكر الداعشي.
امس فقط كنت اشاهد مقابلة لاحد المفكرين الغربيين والذي اوضح فيه ان المخابرات الامريكية هي من جاءت بداعش بدعم من دول المنطقة
لله درم يا وسط
هنا وفي هذه الصحيفة الرائعة والكتاب المرموقين تقرأ المفيد وما ينفع الناس وفي بعض الصحف لا تقرأ سوى الشتيمة والسباب