لعل واحدةً من الحجج التي ساقتها الدعاية الصهيونية لتبرير إقامة الدولة اليهودية على أراضي فلسطين العربية، أن جميع يهود العالم أينما حلوا وعاشوا فهم يواجهون كأقليات متفرقة ما يُعرف بمعاداة السامية، وأن رجوعهم المزعوم إلى أرض الميعاد بفلسطين لإقامة دولتهم العبرية الخاصة بهم هو الحل الوحيد الكفيل بإنهاء هذه المعاناة المزمنة.
وشاءت المقادير التي لم تكن البتة في حسبان الحركة الصهيونية، أن تنتهي النكبة التي حلت بالشعب العربي الفلسطيني عام 1948 بتمكن جزء منه في التشبث بوطنه فلسطين ضمن أراضي الكيان الصهيوني «إسرائيل»، والذين أضحوا لاحقاً يُعرفون بـ «عرب 48» ليواجه هؤلاء داخلها بعدئذ واحداً من أشد صنوف التمييز العنصري والتهميش فوق ترابهم الوطني.
وإذا ما استثنينا ما واجهه يهود أوروبا من اضطهاد في أكثر بلدانها، لعوامل تاريخية ودينية وثقافية لا دخل للعرب ولا ذنب لهم فيها، والتي بلغت ذروتها إبان الحكم النازي في ألمانيا، فإن اليهود العرب داخل الأقطار العربية كانوا على الدوام جزءاً لا يتجزأ من النسيج الوطني لبلدانهم العربية، وتعايشوا في وئام وسلام مع إخوانهم العرب من مسلمين ومسيحيين وغيرهم من مكونات أخرى، بل وساهم العديد منهم في بناء نهضاتها الاقتصادية والثقافية الحديثة. وبإمكاننا هنا أن ندلل في هذا السياق على نماذج عديدة، وخصوصاً من العراق الذي مازالت تجربة تعايش اليهود فيه التاريخية إلى جانب إخوتهم العرب في وئام وتآخٍ تام تجذب العديد من الباحثين العراقيين والعرب لدراستها واستلهام عبرها ودروسها.
ومن المعروف أن تاريخ اليهود العراقيين يضرب بجذوره إلى نحو 2500 سنة، منذ أن أجلاهم نبوخذ نصر من فلسطين في 597 قبل الميلاد إلى بلاد الرافدين، وكان تعدادهم في العراق غداة النكبة يقرب من 150 ألفاً.
ومن النماذج والأعلام اليهودية التي كان لها دور في نهضة العراق المعاصرة نذكر على سبيل المثال لا الحصر، المصرفيان مناحيم دانيال وإبراهيم صالح الكبير ووزير المالية ساسون حسقيل في بدايات تأسيس الدولة العراقية، وداود سمرة رئيس محكمة التمييز، هذا بخلاف أسماء كبيرة يُشار إليها بالبنان في عالم الفن والفكر والأدب والحركة السياسية المعارضة.
وبدلاً من المحافظة على هذه التجربة التاريخية، وقع العرب، أنظمةً وحركات قومية في واحدٍ من أكبر أخطائهم لمواجهة تبعات النكبة، فلأن الحركة الصهيونية قدّمت نفسها عالمياً بأنها الممثل والمدافع الأمين في الذود عن حقوق ومصالح كل اليهود في العالم عبر دغدغة مشاعرهم الدينية بالأساطير الدينية حول العودة إلى أرض الميعاد في فلسطين، ونجحت في استقطاب وخداع مجاميع واسعة من اليهود الغربيين بالهجرة إلى فلسطين، فإن العرب أخذوا يهود بلدانهم بجريرة ذلك النجاح الذي حققته الحركة الصهيونية العالمية، والذي تكلل باغتصاب فلسطين وإقامة «إسرائيل»، وضخّمت ونفخت هذه الحركة بدورها بما لحق بيهود الأقطار العربية من تهديدات واستفزازات واعتداءات غداة النكبة لحملهم على الهجرة إلى «إسرائيل». ولم تكن الأيدي الخفية لـ «إسرائيل» والحركة الصهيونية ذاتهما ببعيدة عنها على نحو ما حدث من تفجيرات في مصر والعراق ضد المصالح اليهودية في الخمسينيات.
ومن المعروف أنه في سنة 1950 صدر قانون تجريد اليهود من الجنسية العراقية، حيث حُمل معظمهم على الهجرة (زهاء مئة وعشرين ألف يهودي) فيما تكفلت الأنظمة القومية المتعاقبة بعدئذٍ بتطفيش أو إعدام جُلّ البقية المتبقية منهم. وساهم صمت الأكثرية منهم دون إبداء موقف سريع حاسم ومندّد بما جرى للشعب العربي الفلسطيني على أيدي العصابات الصهيونية في فلسطين في تحقيق ما حدث لهم من إرغام على الهجرة.
وفي واقع الحال عدا استثناءات محدودة، وخصوصاً اليمن والمغرب وتونس وإلى حدٍ ما مصر، فإن معظم يهود البلدان العربية التي عاشوا فيها كانوا من الطبقات العليا أو الميسورة والوسطى، وما كانوا ليتخلوا بسهولة عن العيش الرغيد الذي كانوا يتمتعون به كمواطنين استجابةً لإغراءات وأضاليل الحركة الصهيونية.
ولئن كان ليس بمقدور العرب موضوعياً التصدّي للمخطط الصهيوني لتهجير يهود أوروبا إلى فلسطين، فقد كان بإمكان الأنظمة العربية المحافظة التي مازالت سائدة غداة النكبة، أن تحول بكل سهولة دون نجاح الحركة الصهيونية في حمل يهود البلدان العربية على الهجرة إلى «إسرائيل»، لولا أن تلك الأنظمة هي نفسها انساقت في ذلك المخطط، بوعي منها أو دون وعي، تحت تأثير ردة الفعل الجماهيرية العربية العارمة الغاضبة من نكبة 48 وما تعرّض له الشعب الفلسطيني الشقيق من مأساة عظمى دامية، ناهيك عن الشعارات القومية المتطرفة السائدة حينذاك.
ولولا كل ذلك لكان بقاء أغلب يهود الأقطار العربية في أوطانهم من أهم الأسلحة الإعلامية والأيدلوجية في أيديهم لتفنيد مبرر إنشاء «إسرائيل» بإنقاذ يهود العالم من معاداة السامية؛ ولكان ومازال التمييز العنصري ضد عرب 48 خير شاهد على عنصرية الدولة الصهيونية ذاتها، في حين آل مسار السيرورة التاريخية العربية منذ النكبة لأن يجد كثرة من المواطنين العرب أنفسهم اليوم محمولين، طوعياً أو إجبارياً، على الاغتراب والهجرة خارج أوطانهم، أو ليخوضوا فيما بينهم سلسلةً من الحروب والنزاعات الأهلية المتصلة على المستويين القُطري والقومي، تارة باسم القضية الفلسطينية ذاتها، وطوراً آخر باسم الإسلام وتكفير المكوّنات الأخرى المتعايشة معهم منذ صدر الإسلام، وخلق أعداء إقليميين وهميين، وتهويل مخاطرهم بأشد من خطر العدو الإسرائيلي الذي ينفرد وحده في الشرق الأوسط بامتلاك ترسانة من أسلحة الدمار الشامل بعلم القاصي والداني من المجتمع الدولي.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 4638 - الثلثاء 19 مايو 2015م الموافق 01 شعبان 1436هـ
اليهود كانوا ضحايا الصهاينة
حسب ما قرأت في مقالات لغربيين ضد الصهيونية العالمية والماسونية كان اليهود ضحية للصهاينة والماسونيين الذين خططوا لتحويل حياة اليهود في العالم إلى جحيم عمداً لتنفيذ مشروع الهجرة إلى فلسطين.
كما تؤكد ما ورد في هذا المقال بأن اليهود العراقيين بالذات كانوا يعيشون الرخاء والتجارة والنفوذ، ولكن الصهاينة قلبوا الوضع عليهم بتأليب العرب وتسهيل هجرة اليهود للوصول إلى هدفهم المشؤوم.