في حين تتوارى استراتيجيات تمكين الشعوب وحقوق الإنسان وبرامج التحول الديمقراطي والتخطيط المستقبلي ومكافحة الفساد والهدر المالي وتحقيق العدالة والمساواة والتغيير الايجابي الذي طالما حلمت به شعوب المنطقة العربية، أو يجري التعتيم عليها وتغييبها من المشهد الإعلامي تمهيداً لطمسها وإزاحتها من أذهان الناس، تبرز بالمقابل كل يوم في الإعلام «المناهض لمصلحة الشعوب»، تلك القضايا الهامشية والتافهة التي ينشغل بها الرأي العام لفترة، وحين تؤتي أٌكلها وتستنفد أغراضها تُستولد قضايا هامشية أخرى غيرها وهكذا.
إن استراتيجيات الإلهاء هدفها تحوير وتشتيت انتباه العامة وإبقاؤها وجلة ومشغولة بالتفاهة وبالمخاوف كل يوم، لأنها إذا استرخت واستراحت وفكرت وتأملت وتوقفت عن تلقي جرعات الإلهاء، التفتت لأولوياتها وهمومها ومصالحها الحقيقية. وقد استطاع الإعلام العربي الموجّه حكومياً على مدى عقود من النجاح في هذه السياسة الهادفة إلى إحكام السيطرة الذهنية وسجن الجماهير العربية ضمن وعي محدد، وقناعات وتصورات ترمي إلى إخضاع العامة لإرادة الحكم عبر مخططات الإلهاء اليومية.
وتكاد تشعر أن من يدير هذه السياسة يضحك على الناس كل صباح ويمعن في استغفالها واحتقارها، ويستمريء العمل على تخويفها من مصائر وأخطار تحدق بها، فيتم جر الناس من ساحة المعارك السياسية والاختلاف حول تقاسم السلطات والنفوذ والثروة والمصالح الدنيوية والمادية، إلى ساحة المعارك الوهمية والاختلاف الديني أو المذهبي أو المناطقي أو القضايا الجدلية التاريخية وغيرها.
قبل عدة أسابيع، تفتق ذهن أحد الصحافيين المصريين عن فكرة تتفق وهذا النهج القديم والمعروف، وأين؟ في مصر التي من المفترض أن تقود التغيير السياسي الإيجابي في العالم العربي وتوجّه خطاه وتكون نموذجاً يُحتذى للآخرين. إذ طالب نساء مصر بالتجمع في ميدان التحرير ونزع الحجاب من أجل ضرب جماعة الأخوان المسلمين!
مبادرة ما سُمّي بـ «مليونية خلع الحجاب»، خابت لأن الزمن مختلف، وأساليب خداع وإلهاء الشعوب صارت مفضوحةً، إذ وجدت من يدحضها ويعرّيها في مساحات أخرى غير الإعلام الموجّه حكومياً. فما هي علاقة الحجاب بأزمات مصر الراهنة؟ ولعل توقيتها أيضاً لا يحتاج إلى كثيرٍ من الذكاء والنباهة لالتقاطه، فمصر اليوم تعيش تحديات كبيرة، من اقتصادٍ متهاوٍ، وإرهابٍ متنامٍ، وهناك رئيسان سابقان مخلوعان ينتظران المحاكمة، والشعب المصري منقسمٌ أيضاً حول هاتين المحاكمتين، والنظام المصري الحالي غير قادر على إدارة الأزمة السياسية والتفرّد باستقلال القرار الذي أصبح مرتهناً بسبب الدعم المالي الخارجي.
ولقد أعجبت برد ناشطةٍ نسويةٍ مصرية حول ما سُمّي بـ «مليونية خلع الحجاب»، إذ قالت: «لو أنه التفت إلى محاربة أميّة نساء مصر وانتشالهن من الفقر والعوز والحاجة، وإعطائهن الحقوق لكانت دعوته جديرة بالالتفات».
سيدةٌ مصريةٌ أخرى من أتباع الإلهاء ردّت على «مليونية الحجاب» بالدعوة إلى «مليونية الإفطار نهاراً في شهر رمضان»!
حين اندلعت أحداث الربيع العربي، وجد الناس فضاءات أخرى ومنابر للتعبير غير صحافة الإلهاء هذه، فبرزت في الميادين المنتفضة قضايا الفساد والإثراء غير المشروع للنخب الحاكمة التي استأمنها الشعب فخانت الأمانة.
كذلك تجلّت حكايات تهريب الأموال بطرقٍ غير شرعية وتكديسها في بنوك الغرب، فنشطت جهات قانونية لاستردادها. أين هذه الدعوات اليوم، ولماذا لا نسمع عن مبادرات مليونية لإحيائها وإعادة الأموال المنهوبة إلى خزائن الدول العربية، وكيف استطاعت الثورات المضادة طمس وتغييب مثل هذه الدعوات المشروعة المتعلقة بحقوق الشعوب بدلاً من تشغيل ماكنة الإلهاء المدروسة والمعتادة؟
استراتيجية الإلهاء قديمة، وفي التاريخ الحديث تبناها الزعيم النازي أدولف هتلر صاحب المقولة الشهيرة: «إذا أردت السيطرة على الناس أخبرهم أنهم معرّضون للخطر، وحذّرهم من أن أمنهم تحت التهديد... ثم شكّك في وطنية معارضيك»!
وحسب الفيلسوف الأميركي الشهير نعوم تشومسكي، فإن وسائل السيطرة على الشعوب تتضمن معاملة الشعوب بوصفهم أطفالاً واستثارة عاطفتهم بدلاً من فكرهم، لتعطيل التحليل المنطقي والحس النقدي، وإبقائهم في حالة جهل وحماقة، وتشجيعهم على استحسان الرداءة وتبني استراتيجية التأجيل والتسويف، والاعتياد على الحاضر وأخطائه باعتبار أن الأفضل سيأتي في الغد. وتعويض التمرد والثورة على الواقع المر بخلق إحساس وهمي بالذنب تجاه الذات، أي جعل الفرد يظن أنه المسئول عن تعاسته بسبب نقصٍ في ذكائه وقدراته، وبدلاً من أن يثور على النظام يثور على نفسه. إن مليونية خلع الحجاب تندرج تحت هذا العنوان.
ميدان التحرير الذي تمنته الشعوب العربية أن يكون رمزاً سياسياً ونموذجاً يحتذى في تمكين الشعوب من محاسبة سُرّاقها ومستبديها، صرنا كشعوب نخاف عليه من أن يحوّله إعلاميو الإلهاء إلى مساحة لإحداث «الشوشرة» والمشاغبة والتشويش، وإطلاق المبادرات المخادعة التي ظاهرها حق وباطنها باطل.
إقرأ أيضا لـ "عصمت الموسوي"العدد 4637 - الإثنين 18 مايو 2015م الموافق 29 رجب 1436هـ
نعم استراتيجية الهاء الشعوب
بداية موضوعاتك ايتها المواطنه الشريفة لها طعم مختلف كم نحن محتاجون اليه .وما موضوع استرتتيجية الهاء الشعوب الا دليلا على مهنيتك ونظرتك الثاقبة ووضع يدك على الجرج والاضاءة على ميكيافيلية الانظمة وعبثيتها .