العدد 4636 - الأحد 17 مايو 2015م الموافق 28 رجب 1436هـ

كتابة تنبض بالحياة وأخرى تشير إلى الموت

سوسن دهنيم Sawsan.Dahneem [at] alwasatnews.com

فرق بين أن تكتب لتعيش، وتعيش لتكتب. فرق بين أن تكتب ما يُطلب منك أن تكتبه وبين أن تكتب بمحض إرادتك ورغبتك وقناعتك، ورؤية ما لا يراه غيرك، والقبض على ما يبدو مستحيلاً الاقتراب منه. ولا فرق بين أن تكتب لتبني وأن تكتب لتهدم للهدم فقط.

الكتابة هدم ما هو مشوّه وهش، من أجل أن يستعيد جماله وصلابته ورسوخه.

الكتابة التي لا تثير قلقاً ولا تحرك راكداً ولا تولد دهشةً ولا تستفز طمأنينة زائفة، هي جزء من ذلك الزيف. لا كتابة حقيقية وصادقة وعميقة ما لم تكن عفوية وسهلة وصادمة وكاشفة أيضاً.

وظيفة الكتابة أن تعيد للإنسان انتباه وعيه. تزيل الخدر والوهم الذي يعلق به. تعيد ترتيب تعامله ونظره إلى الحياة. تعيد ترتيب علاقاته أيضاً. علاقته بنفسه أولاً وعلاقته بالآخرين. تمنحه القدرة بالانتصار على الجامد والثابت فيه نحو المتحوّل.

تحصّن الكتابة المحيط بكل ما فيه، حين لا تتواطأ عليه بالكذب والدجل والزيف. الكذب في الكتابة محاولة لمصادرة خياراته، وإغلاق طرق النجاة التي يمكن أن يلتمسها. مثل تلك الحصانة التي تمنحها الكتابة، تبرز في تطور مستويات التمايز الذي توجده وتحدثه، بتسليح إنسانه بأدوات الصد.

كل كتابة إضاءة، وذهاب إلى النقيض من الظلام. دور الكتابة هي كشف بشاعة العتمة. العتمة التي لا تريد للإنسان أن يبصر من حوله، فيما الكتابة تتجاوز ذلك، إلى الإبصار من الداخل لا الاكتفاء بظاهر «ما حول».

وكل كتابة لا تحمل داخلها فعل المفاجأة لا فعل فيها من الأساس. مفاجأة أن تتأمل وتتدبّر وتحسن المعرفة.

وحتى وهي ذاهبة إلى الوقوف على المجهول، لا تمارس الدجل المعهود. تقف عليه لا لينكشف، بل للإحاطة بما جعله مجهولاً.

من وظيفة الكتابة استشراف المستقبل. لا تقدّم وصفاً له بقدر ما تقدّم الطرق والأدوات الموصلة إليه. والكتابة بمعنى آخر، أداة من أدوات القبض على الزمن. ولا تأخذنا الكتابة إلى طريق وحيد. لها من الطرق ما يتعدّد، ولكن واحدة من أكبر غاياتها في مثل ذلك التعدّد هو قدرتها على إقناعنا كلما ظننا أننا وصلنا، تتفرع من الوصول نفسه طرق تبدو أنها بلا نهايات.

والكتابة التي تعجز عن إحداث تغيير، تمارس عجزاً تحت ذلك العنوان. فليست اللغة وحدها التي تمنح الكتابة صفتها، بل قدرة تلك اللغة على الاقتراب من المنسي، وتقديمه كأنها ماثل وفي العمق من تفاصيل الحياة اليومية وما يرتبط بها.

لا شي مثل الكتابة التي تحصّننا بالجمال والقلق والدهشة. إنها في قدرتها على إخراجنا من قراءة سطح الأشياء، استدراجاً لنا إلى عمقها. وبالقدر الذي تمارس فيه الكتابة الحية النابضة بالضمير دور التنوير، يمارس نمط منها كل ما هو نقيض من ذلك. نمط مارس وكرّس دور أن يتماهى وينسجم بعض البشر مع تخلفهم وجهلهم وعجزهم. نمط منها عمل على أن يكونوا رهناء، وليسوا من أبناء الوقت، بل أبناء الضياع والمتاهة والمجهول الذي لا يريد أحد الاقتراب منه. مقابل كتابة كتلك، هناك كتابة لا ترى منها وفيها إلا الموت وما يشير إليه.

إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"

العدد 4636 - الأحد 17 مايو 2015م الموافق 28 رجب 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 4:19 ص

      شكر

      شكرا للكاتبة المبدعة ع روعة الكلام ف المقال.

    • زائر 1 | 12:01 ص

      انت انسانة حساسة جداً وعميقة

      انصحك بقراءة الياباني هاروكي مراكوميى اي كتاب وأي رواية وكذلك قراءة اي كتاب ل باتريك موديون الذي حاز على جائزة نوبل العام الماضي اذا تمت ترجمة كتبة سوف يأخذونه الى بحار عميقة ، كتاباتك جميلة . كل التوفيق

اقرأ ايضاً