العدد 4634 - الجمعة 15 مايو 2015م الموافق 26 رجب 1436هـ

الكتابة تصالح أيمن جعفر مع الكون وكل تجارب باسمة القصاب فراشات

استمرار «الشهادات الإبداعية» من وجود وفراديس

ضمن موسم «شهادات إبداعية في التجارب البحرينية» التي تنظمها وجود للثقافة والإبداع بالتعاون مع دار فراديس للنشر والتوزيع، تم تنظيم أمسيتين مساءي الإثنين والثلاثاء 11 و12 مايو/أيار 2015 تحدث في الأمسية الأولى منهما القاص أيمن جعفر عن تجربته في الكتابة وممارسته للخط أيضاً، فيما خصصت الأمسية الثانية للكاتبة باسمة القصاب لتتناول بالتفصيل تجربتها في الكتابة.

وقال أيمن إن بداياته كانت مع المكتبة التي خصصها له والده «كانت المكتبة في طفولتي قبل الكتاب. كان الكتابُ كما هو جزءٌ منها، وكنتُ لا أعرفُ كيف لي أنْ أستغلَّ ممتلكاتِ مملكتي الصغيرة حتى علّمني والدي ذلك. لمْ يعلّمني بالطريقة الكلاسيكيّة وحدها. علّمني بطريقةٍ أكثر فعالية. كان وفيًّا لعادته كلَّ مساء: يفتحُ كتاباً وينغمسُ في قراءته مرتدياً نظارته ذات الإطار الذهبي، منقطعاً عنّا وعن صوت مذيع الأخبار الذي لا يكترث لما يقوله، ولا لما يحدث في الخارج من جلبة أصوات، أو إغراء النوم. كنتُ أراقبه. أتلصَّصُ على ملامحه المسافرة بعيداً. أقتربُ منه لعلّني أدركُ سبباً لما يجعلُ لعينيه كلَّ ذلك الغوص، ولما يجعله يتوقفُ قليلاً محدِّقاً في مكانٍ لا مرئي. وكنتُ أريدُ أنْ أغزو هذا العالم. حينما أمسكتُ كتاباً للمرّة الأولى سرتْ في أوصالي رعشةٌ ما لمْ أدركْ باعثها، وحين قرّرتُ أنْ أقرأ لم أجدني قادراً عن التوقف. كانتْ قصة «الحصان الطائر» من قصص ألف ليلةٍ وليلة. ليلتها لمْ أنمْ قبل إنهائها. لكنني أيضاً استقبلتُ في منامي بطلها، وذلك الحصانُ الطائر الأسود. كنتُ أستطيع رؤية كل ما قرأته بالكلمات عياناً. بل إنني أستطيع أنْ أتمادى بالقول بأنّي تحدّثتُ مع كل شخصيات القصة. ووجدتني، من حيث لا أدري أعقِدُ صداقةً رائعةً مع ذلك الحصان الطائر وأطيرَ به مخلّفًا البطل الذي تعاطفتُ معه جدّاً، لكني لمْ أستطع مقاومة إغراء الطيران نحو حكايتي الخاصّة!».

القراءة الأولى دفعت أيمن لكتابة قصته الأولى، ثم جاءت فكرة إعادته كتابة ما يقرأ من قصص كما تشاء مخيلته. يقول أيمن «أحسستُ بمتعةٍ فائقةٍ في جمع كل ذلك في قصةٍ واحدةٍ يُنجزها عقلي هناك في منطقةٍ لا أعرفُ اسمها بقدر ما أرى فعلها. كنتُ أرى على مدى فترةٍ طويلةٍ كيف تنضجُ يومًا إثر يوم. كيف تندغم كلّها في سياقٍ حُلُميٍّ يجعلُ لها وجودها المتمايز عن كلِّ ما قرأتُ وتمثّلتُ. كان ذلك يُكسبني حقّاً لذّة الخلق، ومتعة السرد، وإنْ كنتُ لمْ أفكّرْ يوماً في سردها لأحدٍ سوى أوراقِ دفتري المسوّدة الأحمر بأوراقه البيضاء التي ما تلبثُ أنْ تنتهي سريعاً قبل أنْ تنتهي كلُّ قصصي!».

عن انعطافاته في تجربة الشعر والخط وتعلقه بالسرد يضيف «كان الشعرُ انعطافةً سريعةً في بداياتي الكتابية بعد أنْ بدأتُ باكراً في كتابة المقال والبحث جنباً إلى جنبٍ مع القصة. كنتُ مهووساً بمحاولة تمثّل المتنبي وأبي فراس. وربما تأثرثُ بشكلٍ مرضي بما كنتُ أسمعه عن تعظيم الشاعر في قِبالة عدم الاكتراث بالسارد حينها. وكنتُ حينها مولعاً بعالم الرسم. كنتُ أرسمُ في دفتري الصغير كلَّ شيء. وحين انتهى دفتري لمْ أجد حرجاً من الشخبطة على جدران شقتنا آنذاك. كنتُ أرسمُ عليها حيناً وأكتبُ بعضاً من محاولاتي الشعرية التي لمْ تكن أكثرَ من هذيان! على أنَّ تلك المرحلة لم تصمدْ كثيراً. أتذكّرُ جيّداً في يومٍ من الأيام على مقعد الدرس في الصف السادس الابتدائي أنني قرّرتُ العودة لكتابة القصة. تذكّرتُ قصة الحصان الطائر. لمْ أشأ تلك المرّة أنْ أجعلني البطل لحصان بطلٍ غيري. أردتُ خلق شيءٍ خاصٍّ بي. فكّرتُ في أنْ أجعلني أطير. استدركتُ بأني قرأتُ ذات قصةٍ عن رجل طائر. فكّرتُ كثيراً دون جدوى حتى عدتُ إلى البيت. استلقيتُ طويلاً على سريري محلّقاً بمخيّلتي التي جادتْ عليَّ أخيراً بفكرة الكتاب الطائر! بعد كتابتي تلك، تبدّلتْ فيَّ أمورٌ كثيرةٌ لمْ ألحظها في البدء بشكلٍ جليٍّ حتى قرّرتُ ترك الرسم أمام إغراء الخط العربي بحروفه وعذوبة أنواع خطوطه. في الخطّ، كما في السرد، شعرتُ بأني أقربَ إلى ذاتي التي تميلُ إلى الخلق بحريّةٍ أكثر. في الرسم كنتُ أحاكي فقط، وفي الشعر كنتُ أكتبُ إحساسي لكن تأثراً بصوتٍ آخر ليس صوتي، بالشعراء الذين أحببتهم وفق إيقاع القافية. الأدب والخط رئتاي! فقط في القصّ في تلك المرحلة الحاسمة شعرتُ أنني شرعتُ في القدرة على رسم عوالمي الخاصّة. ربما لهذا أيضاً تركتُ السردَ في مرحلتي الأولى المبكرة قبل العودة إليه من زاويةٍ أخرى». وعن الكتابة يقول «الكتابة تجعلني في تصالحٍ مع الكون. إنها تهبني الاتزان. وإنَّ كتابتي تقومُ في أصل مبناها على العالم النفسي لأبطال الشخصيات، أكثر من الحدث ذاته. ما يهمّني في الحدث ليس وقوعه بقدر أثره ومسبّباته في داخل الذات الفاعلة والمنفعلة به. هذا العالمُ النفسيُّ أسٌّ أساس في كل ما أكتبه، وإنَّ الحلمَ، هذا المحفّزُ الأبدي، لهو في كثير الأحيان مُجلّيها بصورةٍ أنقى وأصفى».

عن تجربتها في الكتابة متناولة ثيمة التجربة نفسها من عدة أبعاد تقول القصاب «خارج التجربة لا شيء سوى التكرار. التجربة التي لا تعيشها لا تستطيع أن ترويها. نحن ممتلئون بتجاربنا التي نعيشها، والكاتب ممتلئ بما يرويه من هذه التجارب، وما يكتشفه من ذاته المتعثرة بين تفاصيلها. كل رواية للتجربة اكتشاف آخر للذات. كان كتابي اليتيم «كالتي هربت بعينيها» أول علاقة بيني وبين الكتابة عن التجربة الذاتية ومن خلالها. نُشرت على شكل حلقات في صحيفة «الوقت» في 2006، قبل أن تُجمع بين ضفتي كتاب، وتصدر في الذكرى السنوية الأولى لانطلاقة الصحيفة مع كتاب آخر هو «بوابات العبور»؛ ملف آخر عمل عليه مجموعة من الصحافيين».

وتواصل «هذه التجربة الكتابية نقلتني لأفق آخر في فهم حاضنتي الثقافية والحواضن الأخرى وعلاقتي بها، وبطبيعة الحال نقلتني لأفق آخر في الكتابة نفسها. بدأت التجارب الإنسانية تشكّل غواية خاصة بالنسبة لي. وبحكم تحولي الفكري، فقد صار هذا النوع من التجارب يشكل موضع شغفي الأول، فتحني فيما بعد على كل أشكال التجربة الإنسانية (عقيدية، دينية، فكرية، ثقافية، اجتماعية، سياسية، مهنية... إلخ).

بهذا الأفق أيضاً، رحنا في صحيفة الوقت؛ الصديقان علي الديري وحسين المحروس وأنا، نبلور فكرة ملحق خاص أسميناه «بروفايل». كان قائماً على النبش في عمق التجارب الإنسانية والدخول إلى سيرة المجتمع من خلال سيرة الناس الذين يعيشون فيه. وضعنا له تعريفاً: البروفايل هو الصورة الجانبية المواربة للمجتمع في الشخص، أو الصورة الجانبية المتوارية للشخص في المجتمع».

وعن التأثر بتجارب الآخرين وصدمتها من مواقف المثقفين تضيف «صرتُ أوقن أن كل تجربة فراشة. وأن لكل تجربة أثر يشبه تماماً أثر الفراشة. الفراشة تضرب بجناحها في طرف من الأرض لتحدث زلزالاً في الطرف الآخر. كذلك تجربة الإنسان التي يعيشها اليوم، تضرب بجناحها في حياته كلّها. ما نعيشه اليوم من تجربة يرسم شكل حياتنا القادمة ويحدد رؤيتنا لذواتنا والآخرين وعلاقتنا بهم».

في 2010 كانت ثمة كتب جاهزة على طاولتي لأبدأ بتنفيذها للنشر «ظفار الحلم»، «وطنٌ من ماء»، «أن أتنفس». اليوم مازالت هذه الكتب تجلس على الطاولة ذاتها. لم تُنشر.

إنه العام 2011. أكبر من رفرفة فراشة. عاصفة كادت تكسر أجنحتي (...) صرتُ واحدة من الذين وجدوا في دوار اللؤلؤة فضاء وطنياً مشتركاً، وحلماً متواضعاً. رحت أكتب من خلال هذا الفضاء. أكتب فيه تجارب الناس وهم يتطلعون لصناعة حريتهم. ثم تجارب الناس وهم يدفعون ثمن حريتهم. تجارب الناس وهم يتحدّون مغتالي حريتهم. مازلت في هذه التجربة ولا أظنني أخرج منها حتى لحظة كتابتي هذه الشهادة.

العدد 4634 - الجمعة 15 مايو 2015م الموافق 26 رجب 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً