تُتيح تجربة الشاعر البحرين قاسم حدَّاد، لحاملي مشروعات النظر النقدي؛ وحتى لأولئك الذين هم على صلة من قريب أو بعيد، بمراجعات النصوص، وتقديم طبقات ومستويات جمالياتها، وأيضاً أولئك الذين هم في خط التجربة والممارسة نفسها، تتيح تلك التجربة مجالات وفضاءات واسعة للتنوُّع، في ذلك النظر والمراجعة والتقديم؛ بحكم تنوع تجربة الشاعر، واشتغالاته المتعددة، في انتقالاته بين الشعر، والنص المفتوح على أفق يخرج على تحديد المسميات والأشكال، والسرد الذي يبرع فيه أيما براعة، وإن جاء كما العابر، إلا أن قدرته وبأدوات الشاعر، تحيل التفاصيل التي تخضع لشروط السرد التي نعرف، إلى لحظات مكثفَّة بالشعر، في امتزاج آسر.
الكتاب الذي تم إنجازه في العاصمة الألمانية (برلين)، في يونيو/ حزيران 2006، جاء ضمن برنامج «ديوان شرق - غرب»، الذي ينظِّمه معهد غوته. وبحسب إشارة في مطلع الكتاب، يعمل البرنامج «على ترتيب زيارات مشتركة متبادلة بين كتَّاب من الشرق (عرب، إيرانيون، أتراك)، وكتَّاب ألمان، لإقامة عدد من الفعاليات المشتركة في بلديْ الكاتبيْن، ويترافقان في جولتيهما الألمانية والشرقية. ويكتب الاثنان ما يُريدان، بحريَّتهما المُطلقة، وتتولَّى الجهة المُنظِّمة ترجمة ما يكتبان في ألمانيا ونشره». وكان زميل تجربة قاسم، الكاتب الألماني إيليا توريانوف.
البرنامج/ التجربة، أفق مفتوح على الكتابة بضوابطها طبعاً، لكنه أفق مفتوح على تحطيم الأشكال في تلك الكتابة، بين السرد، وحديث الذات، ومساحة من الاشتغال على الذاكرة، والانطباع عن المكان الجديد، باستدعاء وحضور للمكان الأصل، والمراجعات العابرة. والقيمة الكبيرة من وراء ذلك: الحوار.
ذلك في المباشر من فهمها. في العميق من التجربة؛ أن تكون في حال اختبار مع لغتك. كيف يمكن لتلك اللغة أن تكون في حدود من شفافيتها، وقدرتها على التعبير عن نوازعك، في مقابل لغة أخرى لاشك أن بينهما من الفوارق، والتباين في ثراء القاموس، والحسم الذي يمكن أن يخلقه أو يولِّده ذكاء الالتقاط والتوظيف.
أمر آخر يمكن الوقوف عليه من ذلك البرنامج/ التجربة، أن المشاريع التي يفتح الغرب نافذة لتحققها، وأفقاً لتجلياتها وحضورها، ومن ثم بروزها في شكل أعمال، تمتدُّ لتشمل الكائن البشري والأرض التي يقيم عليها في الوقت نفسه. بمعنى: أنها (التجربة) ليست محاولة لاكتشاف الفارق والمخزون وعمق التجربة بين زميلين مختلفين على مستوى اللغة التي يقدِّمان نفسيهما إلى العالم من خلالها، بقدر ما هي طريقة وأسلوب لتجربة حوار بالنص، وعلينا هنا ألاَّ نفهم أنه حوار بين التجربتين فقط، بقدر ما هي تجربة حوار إنساني خلَّاق، يأتي على خلفية مشروع حضاري حقيقي وجاد تتبنَّاه كثير من دول الغرب، وتنفق عليه أموالاً، ربما لا تُنفق على مشروع إصدارات وطنية في بعض الدول العربية.
هل كان قاسم حدَّاد في حاجة إلى مثل ذلك البرنامج/ التجربة؟ على الأقل من جانب ما أشرنا إليه في مقدمة هذه الكتابة، بفرصة تحطيم الأشكال في الكتابة، تنقلاً بين السرد، وحديث الذات، ومساحة من الاشتغال على الذاكرة، والانطباع عن المكان الجديد، والمراجعات العابرة؟
لقاسم أكثر من تجربة في ذلك؛ ليس أولها «ورشة الأمل... سيرة شخصية لمدينة المحرق»، والتي هي في جانب كبير منها ملامح من سيرته الذاتية، مندغمة مع سيرة المكان، حيث نقف على أكثر من شكل ونمط إبداعي في النص المذكور. وعلينا ألاَّ ننسى النص المشترك مع أمين صالح «الجواشن»، و «علاج المسافة»، و «المستحيل الأزرق»، و «طرفة بن الوردة»؛ وحتى «نقد الأمل».
«المحرق ليست كل العالم»
«تذكَّرْتُ فجأة لحظة بسَطَ لي (توماس) رسالة الدعوة في واحدة من ليالي مدينة المحرق، حين جاء العام الماضي (2005)، برفقة قافلة (فاطمة المرنيسي) في زيارة ثقافية إلى البحرين. قلت في نفسي: ليس ثمة عبث في ما ترسمه لك أقدار الكتابة. فالمحرق ليست كل العالم».
محطات الكتاب لا تقف عند التسجيل. تسجيل البرنامج/ التجربة. ليست استعادة فقط لقدرة قاسم على أن يتجاوز لحظة الوصف للمكان والعلاقات والكتب والطقس والأحلام والكوابيس في المكان الأول؛ دخولاً إلى المكان الجديد والمؤقت. هي تتجاوز ذلك باتجاه تقريب تلك القيمة لنا: قيمة العلاقات، والحوار الناتج عنها. الناتج عنها بالإصغاء بالدرجة الأولى، لا تصنُّع الإصغاء، وما هو أسوأ من ذلك: ألاَّ تتيح تلك المساحة، وتجد أنها حكْراً عليك.
لا يكتب قاسم في «لستَ ضيفاً على أحد» بقدر ما يمارس مثل ذلك الحوار مع العوالم والأمكنة والأشخاص والتجربة التي خاضها. يتيح له مثل ذلك الحوار، فرصة التنقلات بين الأشكال وفيها. التنقل بين السرد، وحديث الذات، وفضاء رحب فيه استدعاءات يتم استلالها من الذاكرة، وحتى ما نظنه انطباعاً عن المكان الجديد، هو إعادة اكتشاف الأمكنة التي جاء منها، وينتمي إليها.
«الاحتفاظ بدرس الموت للحياة»
هل نقف في الكتاب على مساحة فيها حوار حتى مع الأمكنة؟ هل يمكن أن يحدث ذلك؟ ربما تأتي في صيغة الكلام «مع» الذات، لكنه الكلام «عن» و «مع» الأمكنة التي يجدها القارئ مبثوثة في ثنايا الكتاب، حتى وهو يتناول الأسماء والتجارب، وكذلك الحرب. يحضر المكان، ومعه كلام عنه ومعه.
في «نسيان الحرب لا يكفي» «ليس الاحتفاظ بذاكرة الحرب فحسب؛ لكن الاستمرار في صقل هذه الذاكرة بما يجعل المرء قادراً على النجاة من تكرارها في الحياة الجديدة. طرأت هذه الفكرة في بالي وأنا أتأمل دلالة الإبقاء على كنيسة (شارع كودم) المصابة من جرَّاء الحرب العالمية الثانية، إنها بمثابة الاحتفاظ بدرس الموت للحياة».
أن تعود مُحمَّلاً بالغابات
الشواهد لا تنقطع لدى الذي لا يريد أن يكون ضيفاً على أحد، لدى قاسم حدَّاد، بتلك القدرة على تقديم المكان لك بعد أنسنته. لا يتاح ذلك لأي أحد. أن تملك موهبة استنطاق الأمكنة، ومحاولة نسيان أنها كائن ضمن ظروفه؛ لكن تلك الظروف لا تحول بين قيمته وصفته، وروحه التي يمكن لمسها. يفعل حدَّاد ذلك مراراً بالسرد الطازج، وتكون هذه المرة «ضيفاً» عليه؛ وكأنك جزء من المشهد وتفاصيله. القيمة التي تخرج بها من ذلك أنك من الضروري البدء منذ الآن في تكثيف النظر من الداخل إلى كل ما حولك. إلى الأمكنة التي اعتدتها، فأفقدتَ، وفقدتْ كثيراً من نظرك الجديد والمتحول إليها.
«في الدور الرابع من المبنى الذي أقيم فيه ما إن فتحت نافذتي حتى اندفقت الغابة كاملة في الشقة، وشغلت الغرف والممرات والسطح والسقف. خضرة غمرت الروح اليابسة، ثم بدأت تعبث بأشياء المكان، وتطوي السجَّاد، وتنثر أوراق المكتب، وتتصفَّح الدفاتر، وتدير أزرار الكمبيوتر على هواها. خضرة رافقتني منذ وصولي، ولا أزال مكنوزاً بها. لنتخيَّل كائناً بحرياً يعود مُحمَّلاً بالغابات. لقد أحببت ذلك فعلاً، وبدأت أندم على اختصار وقت الإقامة إلى هذا الحد».
قد يقال، إن للمكان الجديد فعله وسحره والقدرة على الاستدراج، في اكتشاف التفاصيل الجديدة فيه وشعْرنتها، وإدخالها في السرد أو النثر الأنيق؛ وإن كان ذلك صحيحاً في كثير منه؛ إلاَّ أن قديم المكان وجديدة ما لم تتأتَّ له أدوات بارعة وماكرة وساحرة؛ وما لم تُتح قدرة استثنائية على إقامة مثل ذلك الحوار، وامتلاك ما يُغوي على الكشف، فسيَّان كانت جديدة أو قديمة تلك الأمكنة.
فداحة البحر
نصوص كأنها استرجاع ومحاولة إدخال المكانين في حال من التآخي. أن تآخي بين الأمكنة فتلك مسألة تحتاج إلى انتباه حاد. بين غابات برلين، وبحر الجزيرة تلك الشقَّة في المدى؛ لكنها بالنسبة إلى الشاعر ليست عصية. ليست محاولة لمقابلة المكانين، بقدر ما هي إمكانية الذهاب في المكانين أينما كنت، وإن تعدَّدت، تظل أنت وحدك القابض على اللحظة الشعرية، ونثر تلك اللحظة في المكان/ النص ليمتدَّ ويتطاول ويخرج على حدود قارات وعوالم، بتلك اللحظة وذلك القبض.
«ينبغي أن تكون بلادك جزيرة
لتحظى بفداحة البحر وهو يبتعد عن بيتك
ينبغي عليك أن تفنى قليلاً في انتظار رحيم
لئلا يتأخر بك السفر في درجة المنفى
كلما بلادك جزيرة تحميك من الغزو
وتأتي لك بالرحيل والمغامرات
ولا تنساك
عليك أن تكون نافراً
ومستعداً لذلك».
العدد 4634 - الجمعة 15 مايو 2015م الموافق 26 رجب 1436هـ