«قمر» لم يتجاوز الثلاثين ربيعاً، بزغت أنواره في أطباقه الطائرة، مخترقة الضباب والسحب الداكنة وروائح اللحوم المشوية الشهية، وهو ما بين حرارة الطقس ونيران الشواء وارتفاع درجة الرطوبة يرفع سيخاً ويضع آخر أو يقدم طبقاً على طبق، يجر عربة الشواء والشاورما والكشري والصمود ضد البطالة والتسكع في الشوارع من أجل لقمة العيش في بيع الاطعمة والمشويات، عربته ليست مثل بقية العربات، فكلما مررت عليه وجدتها مملؤة بالأطعمة ومشغولاً في تلقي طلبات الشباب أو يعد قائمة وجباتهم او منهمكاً في دقتها حتى لا يتضايقون منه، بدأت فكرته الطموحة منذ 5 سنوات لمكافحة الملل والكلل، وضيق الحاجة، وتجنب البسطات، وشرب النرجيلات، أو الحديث على الناس، والقص في أعراضهم بمقص الغيبة والنميمة، بدأ بالبقوليات كالفول والنخي والدال ليرتفع صيته ويشتهر اسمه عالياً مع أدخنة المشويات الطازجة، وبالخلطة السحرية بمعونة من ولديه «محمد وروح الله»رفقاء دربه الصغار في السن، الكبار في المهام والتربية والتعلم وتأدية مهامهم أحسن أداء وأفضل طاعة، أحبهما وأحباه لمرحه معهم، واشغالهم فيما يغنيهم ويجنبهم اللهو واللعب الكثير، فهما إلى جانب وظائفهم اليومية المتعلقة بالمدرسة يعاوناه في ترتيب أوضاع عربته وحمل أطعمة زبائنه وجرها إلى حيث ما تشتهيه الأنفس، أما إذا كثرت الأطباق وتنوعت الطلبات، استعان بزوجته التي لم تبخل عليه في وقوفها معه إذا لزم الأمر.
إنه الشيف «علي التيتون» الشاب المبدع في تنويع قائمة الأطعمة الليلة لأهالي القرية المكافح بالخلطات، ولذة الشواء وبما تشتهيه الأنفس والبطون وتتلذذ به الأعين.
يقول عن نفسه إنه منذ صغره مغرم بالطبخ وإعداد الأطباق السريعة، حيث بدأ عمله في مطاعم كبيرة في الاسم والسمعة حتى إذا اشتد ساعده وكبر طموحه وحاصرته أفكاره خرج بعربته حاملة معها أحلامه وأطباقه المتنوعة، ويواصل التيتون قائلاً أحرص كل الحرص بجلب اللحم الحلال في أطباقي ولا شيء غير الحلال، أكثر زبائنه من الصغار والشباب ويقل حضورهم ليال العطل بسبب خروجهم مع أسرهم خارج البيت ويكثر الأقبال عليها في ليال العمل والمدارس لسبب اجبار أولياء الأمور على التبكير في تناول عشائهم ثم نومهم، وخصوصاً أن التيتون وفر خطاً هاتفياً ساخناً أسماه «التيتون هنقري» لتلبية رغباتهم وطلباتهم، يفكر مستقبلاً التوسع في مشروعه في محل يجمع جميع أطباقه ومنه ينطلق لتفجير مفاجأته الكبرى كإعداد وجبات غداء وخدمة «هوم دلفري» لتأمين وصول طلباتهم بالسرعة المطلوبة، مقابل تشجيع ودعم أهالي القرية له على تقبل أطباقه التي أصبحت تنافس المطاعم الأجنبية السريعة.
مهدي خليل
هناك مثل انجليزي يقول: «الحاجة أم الاختراع «فيا ترى هل المبدع يبدع قبل أن يكون محتاجا إلى شيء؟ كيف يبدع من لديه المال الكافي ويستطيع بواسطته الحصول على ما كل ما يخطر بباله. فمثلا لو عطش انسان ولديه خادم في المنزل، فهل يقوم هو من مجلسه ليصل الى مكان فيه الماء ليروي عطشه أم يؤشر أو ينادي الخادم ويأمره بأن يأتى إليه بالماء من مكان ما في البيت؟
أليست الحاجة فرضت نفسها على الروس والاميركان للنظر في ابتكار قلم لا ينزل فيه الحبر الى رأسه في الفضاء ليسهلوا مهام رجال الفضاء؟ وبرأيي المتواضع هناك سببان رئيسيان لعدم الابتكار والابداع في المجتمع العربي، السبب الاول موجود في النصف الاول من المجتمعات العربية هو وجود المال الكافي، وخاصة الدول النفطية التي مجتمعاتها كلما احتاجت إلى شيء استوردته من الخارج، فالدعايات العالمية كثيرة، وتسهيلات شراء وتوصيل البضاعة متوافرة، وحتى العمالة المستخدمة في الكثير من الأعمال الداخلية هى عمالة أجنبية، فالمواطن الخليجي وفي معظم الحالات تقتصر مهامه على أداء الأعمال المكتبية، وليس الأعمال اليدوية.
إذن، وباستخدام المال المتوافر تتحول الحاجة بسرعة إلى اقتناء، ويتحول الوضع إلى رغبة وولع جديد، وليس حاجة وهذا ما استطاعت الدعايات التجارية انجازه، بحيث حتى الطفلة أصبحت تلح على امتلاك أحدث الأدوات الالكترونية.
والسبب الثاني هو موجود في النصف الآخر من المجتمعات العربية، وهو ظاهرة الاتكال على الغيبيات المشهور بمقولة «الي مكتوب على الجبين تشوفه العين»، أي أنك ستدفع إلى العمل ليس برغبة في الإبداع أو الابتكار؛ بل هناك دافع خفي يدفعك إلى العمل، وإذا كنت من الكسالى والاتكاليين، فالتبرير موجود وهو عدم وجود كتابة على الجبين تدعو الى العمل.
ومن الملاحظ أن في كلتا الحالتين أن هناك قيودا على العقل من المهم جدا كسرها، فيا ترى متى سيأتي اليوم الذي تتحرر فيه العقول في العالم العربي؟
عبدالعزيز علي حسين
العدد 4634 - الجمعة 15 مايو 2015م الموافق 26 رجب 1436هـ