في لقاء جمعني مؤخراً مع نخبة من المثقفين والمهتمين بالشأن العام، على مائدة عشاء بمدينة الرياض، كان الحديث خليجياً بامتياز. وكان السؤال المركزي هو، لماذا تتقدم الأمم في مجالات التنمية والفكر ولا نتقدم نحن، رغم أننا لا تنقصنا الثروة والإمكانات اللازمة لتحقيق النهوض؟ وتواصل الحديث عن اتكالية الشباب، وعن رفضهم الدخول في ساحات العمل، وأسباب ذلك.
وبديهي أن أسئلة عامة كهذه، ستطرح أجوبة عامة من نوعها، والكل ممن حضروا أدلى بدلوه. قيل إن المعضلة تكمن في وجود ثقافة راسخة لا تقدس العمل، ولا تحرّض باتجاهه. وأن ذلك راسخ منذ القدم في ثقافتنا، التي تنظر بدونية للمزارع والعامل. وقال البعض بأن المجتمعات الخليجية، بفعل ضخامة الثروة المالية، المتأتية من إنتاج النفط، تحوّلت إلى مجتمعات مستهلكة، لكل شيء. فهي تستهلك الغذاء والدواء وأثاث المنازل، والأدوات الكهربائية والسيارات الفارهة والحافلات، وأحدث التقنيات وأجهزة الاتصالات وجميع احتياجاتها من مستلزمات الرخاء، لكنها الأقل بين المجتمعات العربية في استهلاك الأفكار.
لقد كرّس هذا الواقع حالةً من الاتكالية، غدا معها المجتمع كسيحاً وعاجزاً، وغير قادر على المشاركة في عملية التنمية والبناء، وغدا غريباً عمّا يجري من حوله. فالأبناء يعتمدون على دخل الآباء ومدخراتهم، والآباء يعتمدون على ما تقدّمه الدولة في ميزانياتها، في شكل هبات ومشاريع... وهكذا تسير القافلة من دون جديد يستحق الذكر.
هذه القراءة التبسيطية، تضع دول الخليج جميعها، من حيث وفرة السيولة المالية والقدرة الاقتصادية في ميزان واحد. وتضع المجتمع الواحد ضمن تصور نمطي يعمم على الجميع، في حين تؤكد القراءة الموضوعية، غير ذلك. فبلدان الخليج العربي، تتفاوت في مساحتها وتعداد سكانها، وفي قدراتها المالية. ومجتمعاتها ليست وفق مسطرة واحدة، فهي شأنها في ذلك شأن كل المجتمعات الإنسانية، على ظهر هذا الكوكب، فيها الغنى الفاحش والفقر المدقع، وإن اختلفت نسبة ذلك.
لقد قدمت شركات التنقيب عن النفط، قبل أكثر من ثمانية عقود، لمجتمع خليجي كالمجتمع السعودي. وكانت عمالتها في الغالب ومنذ البداية محلية، من مختلف أنحاء المملكة. وقد أسهم ذلك في تداعيات سلبية وخطيرة، على رأسها انهيار النشاط الزراعي، حيث التحق المزارعون، وصيادو الأسماك بالمنشآت النفطية الجديدة.
وقد استمرت هذه الأوضاع على حالها، منذ نهاية الثلاثينيات في القرن الماضي، وتحديداً العام 1938، حين بدأ إنتاج النفط بكميات تجارية بالسعودية، وحتى منتصف السبعينيات، حين بدأت الطفرة النفطية الأولى، بعد حرب أكتوبر العام 1973، حيث عمال النفط يعملون في حقوله، ويتقاضون أجورهم. ولم تتحوّل الدولة بعد حتى ذلك التاريخ إلى دولة رفاه.
وكلما تزايد ارتفاع أسعار النفط، وتضاعفت كميات إنتاجه، تزايد الاعتماد عليه، وتراجعت الفعاليات الإنتاجية الأخرى لمصلحته. فكانت نتيجة ذلك أن أصبحت بلدان الخليج في معظمها، تعتمد في دخلها القومي، وخططها التنموية على عنصر واحد هو النفط. لكن ذلك أسهم من دون شك في تأسيس البنية التحتية للمجتمعات الخليجية، ونقل واقعها الاقتصادي من حال إلى حال.
أسهم هذا التغير الرئيسي، في تحوّل الاقتصاد ببلدان الخليج العربي من شكله القديم، إلى الاقتصاد الريعي، المعتمد في تسيير ماكنته على عنصر واحد، هو النفط. ونتيجةً لوفرة المال، أصبحت البلدان الخليجية سوقاً مفتوحة لتقديم كل أنواع الخدمات. وكلما توسّع القطاع الخدمي، ازدادت أعداد الوافدين للعمل في هذه القطاعات، حتى أمست في بعض دول مجلس التعاون الخليجي خطراً محققاً على الهوية الوطنية.
إذاً فالمعضلة لا تكمن في ثقافة ولا في مواريث قديمة، مع التسليم بأهميتهما في صناعة المجتمعات. لكن الثقافة والمواريث ليسا شيئاً ساكناً. إن تفسير ما جرى في المجتمعات الخليجية خلال قرابة أربعة عقود، ينبغي أن ينطلق من الواقع الموضوعي، الذي فرضته التطورات الاقتصادية على المجتمعات الخليجية.
دليل ذلك، إنه حين تراجعت أسعار النفط في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، ولم تعد هناك وفرة كافية في السيولة المالية، بدأ الشباب الخليجي رحلة البحث عن العمل، والتحق كثيرٌ منهم بوظائف لم تكن مألوفة من قبل بالنسبة لهم، كالعمل في مطاعم الوجبات السريعة، وفي سيارات الأجرة، وحراسة المؤسسات الخاصة. ناهيك عن وجودهم المكثف في المصارف والتعليم والمستشفيات والقطاع الخاص.
دول الخليج العربية، المعتمدة بشكل شبه كامل على النفط، ستكون مستقبلاً أمام لحظة اختيار مصيري، إما الاستمرار في نمط الاقتصاد الريعي، والاعتماد على سلعة واحدة قابلة للنضوب، وعندها تواجه الفاجعة، أو التهيؤ للمستقبل منذ الآن، بتحويل الاقتصاد من شكله الريعي الحالي إلى الاقتصاد المنتج.
ذلك يقتضي العمل على أكثر من جهة. فهناك أولاً الحاجة الملحة إلى توفير مصادر أخرى للطاقة، إما باستثمار الطاقة الشمسية، المتوفرة بشكل هائل في منطقة الخليج بأسرها، أو باستخدام الطاقة النووية. ومن جهة أخرى، ينبغي تخطي ثقافة الاستهلاك، إلى ثقافة الإنتاج، وولوج مرحلة التصنيع. والبلدان الخليجية لا تنقصها القدرات المالية لتأمين ذلك.
هناك دول مهمة كألمانيا، تمكّنت من تحقيق قفزات كبرى على طريق التصنيع، من دون أن تمتلك الموارد الطبيعية لتحقيق ذلك. ومع ذلك فإنها باستثمار مواردها البشرية بكفاءة واقتدار، غدت في مقدمة الدول الصناعية الكبرى في العالم المعاصر.
التحوّل من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المنتج، ليس فقط سبيلاً لمضاعفة الممكنات الاقتصادية لدول الخليج العربي، بل الهدف الأسمى منه، هو استبدال ثقافة بثقافة، ونمط حياتي استهلاكي بنمط منتج، ومن خلاله تحفّز روح الإبداع والمبادرة. وسوف يستلزم ذلك إعادة النظر، في القوانين واللوائح الحكومية، بما في ذلك الأنظمة الضريبية والجمركية، وبما ينسجم مع متطلبات التحول الجديد. فهل حانت لحظة قرع أجراس الخطر؟
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4633 - الخميس 14 مايو 2015م الموافق 25 رجب 1436هـ