يستضيف غاليري «هاي هيل» «Hay Hill Gallery» في «بيكر ستريت» وسط العاصمة البريطانية لندن، معرضًا بعنوان «القناع الأعمى»، للنحات والرسام والمصمم العراقي الدنماركي، علي جبار، المولود في البصرة عام 1963 والذي غادر العراق عام 1992 إلى الدنمارك، ونال شهادة التصميم الغرافيكي من أكاديمية الفنون الدنماركية في كوبنهاغن عام 2002 واستقر في لندن أخيرًا، وذلك وفق ما نقلت صحيفة الشرق الأوسط يوم الثلثاء (12 مايو / أيار 2015).
ويبدو أن الفتى البصري يعرف تمامًا كيف يلوّن أحلامه وذكرياته وأفكاره، وأين يذهب بضربات فرشاته.
اثنتا عشرة لوحة وعمل نحتي واحد، السمة الواضحة لها هي التجريب بلا هوادة، للوصول إلى هاجس خفي في وعي الفنان، قد يخفى عليه أيضاً. يجرب جبار بلا قناعة مسبقة، لذا فهو يضع المتلقي معه في عملية حوار مفتوح على احتمالات التصور والخيال، واستنباط النتائج البصرية والذهنية في العمل الفني. لوحاته تبرز التناقض الحي والجلي بين ما هو مختف تحت قناع وبين ما هو عارٍ، بين البراءة والخداع، القديم والجديد، والواهن والغليظ، كل لوحة هي مزيج من الحلم والواقع، مزيج من الكوابيس الشخصية الغارقة في لغز الذات والبحث عن جواب، وبين وعي الفنان بمحيطه الجمالي والمعرفي. مزيج التناقضات هذا مُعبرٌ عنه بمزيج من الأساليب أيضا من التجريدية إلى التعبيرية ومن الواقعية إلى السريالية.
في لوحة «عالم جديد للوجود» أكريليك على قماش، كأن الفنان يرسم لوحة داخل لوحة، يستحوذ اللون الأزرق على فضاء اللوحة، الرجل الذي يجلس على كرسي مريح بمواجهة شاطئ البحر ويفتح كتاب بإحدى يديه، بينما اليد الأخرى تهمّ أن تعيد خصلة شعر أزعجت العينين أثناء القراءة، أو تحك أذنًا أو تَنشُ حشرة، لكن الرأس يتلاشى ليحل محله جناح كبير متأهب للطيران (هل الجناح مرادف للكتاب المفتوح!)، كما تغيب ساقا الرجل، هناك إطار بمركز اللوحة يؤطر الرجل الجالس، كأنها نافذة ما مفتوحة خلف الأفق، أو ربما لوحة داخل اللوحة، (المشاهد الذي يحدق باللوحة هو أيضا لوحة لمن ينظر له من الخلف!)، ديناميكية حياة هائلة في هذه اللوحة، من الأمواج التي تركن بهدوء إلى الشاطئ إلى اليد التي ترتفع لأمر ما، إلى الجناح الكبير الذي يحتل مكان الرأس إلى الأزرق الذي يعد بأفق مفتوح، كم ذكرتني لوحة علي جبار هذه، بلوحات السريالي البلجيكي رينيه ماغريت.
شخوصه وثيماته لا تفصح عن أسرارها ولا تزيل أقنعتها الفاتنة التي تغوي بالتأمل العميق. العيون الواسعة الفارغة في الأقنعة تعيدنا إلى منحوتات الحضارة الرافدينية، هذه العيون تتناقض كليًا مع الإكسسوارات المعاصرة الموغلة في الإيروتيكية التي ترتديها أجزاء الأجساد.
هوس التنقيط والأقنعة
يصاب المتلقي بالصدمة، أو لنقل الدهشة البصرية من كون الفنان قد جمع هذه الأجزاء من الجسد البشري ووزعها مجددًا بطريقة تتناقض تمامًا مع طبيعة هذا الجسد، وتتآلف من جانب آخر مع مخيلة الفنان الواسعة، كأنه يهدم الأجساد والأشكال والأشياء ليعيد ترتيبها، كما في لوحة (دروان) التي أشعرتني شخصيًا بهلوسات حقيقية، هو يستعير ثيمة التنقيط بالأبيض على خلفية حمراء من الفنانة اليابانية المخضرمة (يايوي كيوساما، في مركز اللوحة وجهان واضحا الملامح ينظران بدهشة وترقب نحو الأعلى، للوجهين أكثر من جذعٍ وأكثر من ساقين كأنها في حالة دوران على ذاتها، في يمين اللوحة درجات سلم تدعونا للارتقاء واكتشاف سر الدهشة.
لماذا يرسم علي جبار كل هذه الأقنعة في لوحاته؟ كأنه يخشى النظر للوجوه، أو لعلها خشية الوقوع ضحية ملامحه الشخصية وإسقاطها على الشخوص، أو لأن الأقنعة تزيد جرعة الغموض في اللوحة وتخفي التشوهات والتناقضات. في لوحة (المركب السكران) مثلاً، وعنوان اللوحة هو قصيدة رامبو الشهيرة، هناك جذع امرأة مبتورة الذراعين والساقين ترتدي غطاء رأس (قناعا) شبيها بالذي ترتديه النساء في المغرب، وملابس جلدية توحي بإيروتيكية مشوهة، جذع المرأة ينبت في زورق يرسو على شاطئ، الأمواج بالرمادي والأبيض، بينما الأزرق هو وشاح المرأة الذي يطير بعيدًا عنها، كأن الفنان يقول لنا إن الرسو هو الرمادي بينما الإقلاع هو أزرق البحر والأفق.
كل لوحة لا تشبه أختها.. كل لوحة هي كائن مكتمل بذاته يفسر العالم ومعضلاته على هواه، بسخرية وخوف ربما. علي جبار لا يكرر المشاهد البصرية والثيمات بل لا يكرر حتى الألوان، على الرغم من أن كل لوحاته تعرض التناقض والمفارقة بين أبدية الأشياء والأشكال، وزوال الإحساس الآني بها التي خلفته داخل وعي الفنان بواسطة الصدفة المحضة.
في لوحة «بورتريت لجيل واحد»، أكثر من شكل لامرأة ورجل، وربما طفل تَنزُ عيناه من بطن المرأة، وكل هذه الشخوص تتقاسم الكرسي ذاته في الحجرة ذاتها. هناك تناقض كبير بين السكون الذي يخيم على أجواء اللوحة وبين ذراعي الرجل التي تحتضن المرأة كأنهما تشدّاها إلى حضنه، كم ذكرتني هذه اللوحة بألوانها الكابية ببيكاسو في مرحلته الزرقاء. الفنان موجود بوضوح في لحظة لوحته (يخيل لي إنها وطنهُ!) على الرغم من اختبائه خلف ألوانه، يعبر عن مشاعره الغامضة التي تربطه بالعوالم الأخرى والكائنات وهي تطفو إلى سطح هذه اللوحات. كأنه يعيد سرد سيرته الذاتية بألوان وثيمات مستلة من موروثه الشعبي والحضاري مع ما يختزنه وعيه من مفردات حياته اليومية وتجاربه السابقة في المدن التي مرّ بها.
علي جبار يعرف جيدًا أن وضوحه يضعف اللوحة، ولكن ألا يجدر به أن يمسك عصا الغموض من وسطها؟ إذا كانت النفس البشرية غير منطقية، كيف يمكن تدجينها والإفصاح عنها بلون وفكرة وفرشاة رسم؟ الإجابة هي البساطة بالتأكيد كما في (أكواب الفرو لميريت أبونيام / فنانة سويسرية تمزج شيئين متباعدين وتجعلك تنتفض من الدهشة)، وليس التعقيد حاجة المتلقي.
نفذ علي جبار أربعة عشر عملاً نحتيًا في تركيا وإيران والبحرين وعمان ولبنان والإمارات العربية وألمانيا، وشارك بأكثر من 85 معرضًا مشتركًا وأكثر من عشرة معارض فردية.
روعة
اخدتني اللوحة لعالم ثاني ...