تذكر مصادر التاريخ، أن السلطان ملكشاه، بعث كتاباً إلى الحسن الصباح (حسن بن على بن محمد الصباح الحميري، وُلد في إيران سنة 1037م/ 430ه، وتوفي فيها سنة 1124م/ 518ه)، والذي يُعرف بشيخ الجبل، ومؤسِّس الطائفة الإسماعيلية النزارية المشرقية، وعُرفوا بـ «الحشَّاشين»؛ بحسب التسمية الأوروبية، يتهدَّده وينهاه، وبعث إليه بفتاوى العلماء، فلما قرأ الكتاب بحضرة الرسول، قال لمن حوله من الشباب: إني أريد أن أرسل منكم رسولاً إلى مولاه، فاشرأبَّت وجوه الحاضرين، ثم قال لشاب منهم: اقتل نفسك! فأخرج سكِّيناً فضرب بها غلْصمته؛ وهو رأس الحُلقوم؛ أي الموضع الناتئ في الحلق؛ فسقط ميتاً. وقال لآخرَ منهم: ألقِ نفسك من هذا الموضع، فرمى نفسه من رأس القلعة إلى أسفل خندقها فتقطَّع. ثم قال لرسول السلطان: هذا الجواب.
الانشغال بالتحقيق في الرواية، لتأكيد حقيقتها أو وضعها، أو إدخال عنصر إثارة عليها، ليس هذا مقامه. المقام بصدد تأكيد أن هناك بشراً إما أن يكونوا تحت تأثير مواد حاجبة للعقل، ومن ثم حاجبة للوعي، والمعرفة بالقرار الذي يريدون اتخاذه، أو ما يعرض أو يُمْلى عليهم، أو تحت تأثير أفكار وعقائد ربما تقوم بعملية حجب العقل وتغييبه أضعافاً مُضاعفة؛ عدا الأثر والنتائج المترتبة على ذلك. ثمة طرف مُمسك بتوجيه الوعي والخيار ذاك؛ بغضِّ النظر عن النتائج ونهاياتها المأسوية؛ إذ لا يراها أولئك البشر بتلك الدرجة من السوء، ولسبب بسيط أن العقل هو الذي يُحدِّد سوءها من عدمه، وخيريَّتها من شريَّتها. هل للاعتقاد دور؛ بغضِّ النظر أيضاً عن صحيحه أو انحرافه؟
يحدث ذلك باتباع القتل والدمار والخراب وتدمير الإنجاز البشري، والسويِّ في علاقات البشر، وإنتاج القلاقل والاضطرابات، والإمعان في الجور. كل ذلك يتحوَّل مع مرور الوقت إلى عقيدة، بتقديم الممارسين لكل ذلك أنفسهم إلى العالم باعتبارهم أصحاب شريعة ومنهاج، وعليهم أن يكونوا مُخلصين لتلك العقيدة بالثبات على تلك الممارسات؛ ولو دفعوا حيواتهم وحيوات البشر من حولهم ثمناً لتمدُّدها وهيمنتها.
كما أنه ليس شرطاً أن يحدث ذلك بوازع ديني (الدِّين الذي نعرف)؛ أو ما يمكن توهُّمه أنه بتوجيه من الدِّين الذي يرخص أمامه كل غالٍ؛ بقدر ما يكون في كثير من الأحيان، درْبة على العُقَد والأمراض والانتقام والحقد الذي يبلغ مداه، وتلك أيضاً تتحوَّل مع مرور الوقت إلى عقيدة، بتكرار الممارسة واستمرائها.
اختطاف الوعي والخيار، ليس بالضرورة أن يكون تحت تأثير مواد حاجبة للعقل، ومن ثم الوعي والإدراك، فثمة بشر لديهم قدرة أيضاً على الاستجابة، والقيام بعملية حجب ذاتي لدور العقل، وترك خياراتهم رهن شخص أو جهات أو اعتقاد.
وبالعودة إلى حسن الصباح، وطائفته (الحشَّاشون) التي عُرفت في الفترة ما بين القرن الخامس والسابع الهجري، المقابل للقرن الحادي عشر والثالث عشر الميلادي، اتخذت من بلاد فارس مركزاً ومعقلاً أساساً، وكذلك الشام، وكانت قلعة «آلموت» مركزاً لنشر دعوة الصباح.
الطائفة دخلت في صراع دموي مع الدولة العباسية، وكذلك الفاطمية، وعدد من السلطنات من السلاجقة والزنكيين والأيوبيين، وفترة من الفترات مع الصليبيين، مع تأكيد المصادر التاريخية بأن جميع أولئك لم يستطيعوا القضاء عليها خلال عشرات السنوات من المواجهات.
اتباع الأساليب الانتحارية التي كانت سابقةً في التاريخ المُدوَّن، وبتلك الكثافة والتواتر في مواجهة أعدائهم، أدخل في قلوب أعدائهم الخوف والرعب، مع اتباع أسلوب الاغتيالات الذي دخل إلى قاموس اللغات الأوروبية ضمن مفردة Assassin»»، وتعني الحشاش أو القاتل أو السفاك، وتذهب بإطلاقها مباشرة إلى منتسب للعقيدة الإسماعيلية النزارية في القرون الوسطى.
تقودنا الإضاءات التاريخية تلك إلى فهم المستويات التي تمرُّ بها انحرافات العقائد، وبالضرورة المؤمنين بها. أحياناً هو استعداد بعض البشر، أو المحسوبين عليهم لأن يكونوا أدوات تفجير عن قرب أو بعد. أدوات دمار شامل أينما حلُّوا وأقاموا.
نهاية «الحشَّاشين» جاءت على يد هولاكو سنة 1256، ونتجت عنها مذبحة وإحراق للقلاع، لتتهاوى الطائفة تماماً على يد الظاهر بيبرس في الشام سنة 1273.
هل انتهت المُمارسة فعلاً، في استلاب الوعي واختطافه، والإتيان بنهج وعقيدة هما على الضدِّ من العقل الذي يتم حجبه وتغييبه بـ «حشيش» مألوف أو غير مألوف؛ وصولاً به إلى الانحراف عن الفطرة؟
في النماذج الأكثر وحشيةً، تلك التي تجتاح الحدود، وتتحوَّل فيها العصابات إلى دول وإمارات لـ «المؤمنين في الطبعة الدموية المنقَّحة»، المثل والشاهد الشاخص والصارخ، الذي يصول ويجول، ويرتكب الفظاعات والمجازر والاغتيالات عن قرب وبعد، على مرأى ومسمع العالم.
«حشَّاشو» العصر، الذين جاءوا من دول القُوقاز وأوروبا وآسيا وأميركا وإفريقيا، ومن كل بقعة في العالم؛ باستثناء القطبين الشمالي والجنوبي! من المفترض أن العالم اجتمع عليهم؛ لأن ما أحدثوه، تجاوز اغتيال أفراد، ليصل إلى اغتيال عقيدة بأسرها، وتجاوز على العقائد الأخرى. اغتيال حدود ودول ومَارَّة ومتسوِّقين وأبرياء، عبر المفُخَّخات والعمليات الانتحارية التي تحصد العشرات والمئات. عمليات عابرة للقارات والحدود.
«حشَّاشو» العصر الذين يُمثِّلون العقيدة والمنهاج المنحرف عن الفطرة، وتربأ حتى الحيوانات بنفسها عن الانتساب لهم، مازالوا يتمدَّدون على مرأى ونظر ما يُسمى بـ «التحالف الدولي»، الذي تقوده الولايات المتحدة، ولا تريد لـ «حشَّاشي» العصر نهاية، على الأقل على المدى القريب، باعتباره ورقة ضغط، وبُعبعاً لا استغناء عنه، في ظل قرب التوصُّل إلى اتفاق مع «البعبع» الذي تم توظيفه لأكثر من ثلاثة عقود (إيران) التي خرج منها «الحشَّاشون»، وأسَّسوا كيانهم! وفي ذلك «تحشيش» من نوع آخر! أو محاولة لإحياء أداة من الأدوات التي عملت لعشرات السنين على زعزعة الاستقرار، والانقضاض على كل مُنجز بشري وإنساني لتحيله قاعاً صفْصفاً.
لا تحسم التسميات أمراً؛ إنما تفعل ذلك الممارسات، والواقع في تغيُّراته وتبدُّلاته بتلك الممارسات.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4632 - الأربعاء 13 مايو 2015م الموافق 24 رجب 1436هـ
جميل
مقال جميل ومعلومات جديده