«من غربته، من ثنايا وحدته، من كوابيسه المُرعبة، والأشباح التي تقتحم لحظات رقاده القليلة، وسهره الذي بدا مُؤبَّداً؛ تطلُّ علينا كتابات الماغوط أخَّاذة جذَّابة، لا تتمالك نفسك من أن تنهال عليها كما ينهال الجائع البائس على الرغيف، والضال التائه على النجم الدليل، تقرأها متسارعاً كما يتسارع نبض العدَّائين...».
تلك مقدِّمة ربما لن يُلتفتَ إليها لو لم تتصدَّر كتابات الشاعر والكاتب المسرحي السوري الراحل، محمد الماغوط، في كتابه «البدوي الأخير»، الصادر عن دار المدى العام 2006، في 462 صفحة من الحجم المتوسط. كل تقديم للماغوط، بمثابة محاولة للخروج بتعريف للوجع والخيبة والخسارات، والأهم من كل ذلك: الانتصار عليها!
حتى بعد رحيله، يستميت الماغوط في طريق الكلام الذي يبدو جارحاً. الكلام الذي قُدَّ من جرح عريق، ومن دروب آلام تتْرى، ولا تكاد تبِين لها نهايات.
الماغوط الذي قدَّم العالم العربي، وقدَّم الشرق كما هو، من دون مساحيق وأقنعة، لا يحتاج إلى من يقدِّمه وهو في عالمه الآخر.
لا يمكن اختزال الماغوط في نص، ولا يمكن اختزاله أيضاً في حال من الفذْلكة؛ لكن يمكن القول وبطمأنينة، وباختزال: إن الماغوط عالج بالكتابات تلك، العذاب والجحيم واليأس العربي بالسخرية التي ارتأى أنها الأداة المتوافرة التي لا يمكن لأي فصيل عربي، انهزامياً كان أو انتحارياً؛ أو حتى عقلانياً، أن يحتكرها، ويُدخلها ضمن ملكيته الخاصة، كما أدخل بشر أوطاناً ضمن تلك الملكية!
ليس الوطن الحزين الذي حوَّله من كتابة شعر الحبِّ والحنين إلى الكتابة بالسكِّين، بحسب نص نزار قبَّاني. ليس الحزن وحده الذي رآه قباني؛ فما انتبهت له حواس الماغوط طوال عقود كان تراكم كل كوارث ومآسي الجنس البشري ضمن نطاق جغرافية انسجمت مع الخراب، وتآلفت مع الدم المسفوك، ودخلت في حلف مع أكثر من شيطان؛ بل وأوجدت شياطينها الذين يقومون بالمهمات على أكمل وجه، بممارسة النقص، والإقامة في النقصان!
خريف المكان... تسمية اليأس
في الخريف الذي ألِفَتْه كتابته، ويكاد لا يغيب عنها، كان يصنع ربيع كتابة؛ وإن جاءت ممزوجة وممهورة بالكثير من العذاب، والكثير من المتاهات، وفائض من الصحراء التي تمتد على مرأى البصر والبصيرة؛ على رغم المدن التي تتناسل كالفطْر الغريب؛ وسط مدى مفتوح على الحرمان والفاقة أيضاً!
لم يبع الأمل ويمرِّره كذباً كما فعل كثيرون. سمَّى اليأس بأسمائه وصوره كلها، ورمق الأمل بكبرياء جريح؛ لكنه لم يتخلَ قط عن تلك القيمة الكبرى في الحياة؛ لأنه يعرف تماماً معنى أن تعيش من دون أمل. كأنك تستعير رئتك والهواء، كي تنجو من محنة القبر! ولم يعد القبر مخيفاً في ظل القبر العملاق المفتوح على جهات الحياة وأوقاتها ومناخاتها وفصولها.
وإذا جاز لنا أن نستعير عنوان قاسم حدَّاد «لستَ ضيفاً على أحد»، لم يكن الماغوط ضيفاً على الجغرافية التي وجد نفسه فيها قسْراً دون خيار منه، ولو خُيِّر لما ارتضى بديلاً عنها؛ على رغم امتلائها بالقيْح والفقد وفائض الوجع واحتراف الطعن، وإسلام أبنائها إلى المجهول الذي تخترعه وتخلقه حين لا يحضر.
لم يكن ضيفاً إلا على التصالح مع نفسه في الأوقات النادرة، وسرعان ما يهجوها بعد أن يفرغ من هجاء الكائنات التي من حوله، وتلك التي خارج تغطية إبصاره لها.
خريف المجْد
للمجد خريفه أيضاً بالنسبة إلى الماغوط، ولم تأتِ كتابته التي حملت الاسم نفسه «خريف المجد» محْض ذهاب في الاتجاه المعاكس في تعامله وتعاطيه مع اللغة. ليس من أولئك هو، بالمباشرة في نصوصه وكتاباته. المباشرة التي لا تعني توسيع رقعة التسطيح والبلادة، والغباء أيضاً، ولا تعني في الوقت نفسه الذهاب في غموض فجٍّ أمام الفضائح التي يكتظ بها العالم العربي والشرق عموماً.
في «خريف المجد»، لن يعِدَك إلا بالصدمة، وخصوصاً إذا جاءت متلبِّسة في حوارية هو طرفها؛ ولكنها تقولنا جميعاً. تقول ما نبحث عنه وهو ملء العين؛ لكننا لا نملك حصة منه. ربما لأن حصِّتنا من الحياة تظل ناقصة؛ أو رهن تصرُّف أحدهم؛ أو لأننا لم نذهب لدرس الحياة كما يجب.
«قالوا لي: إن الحبَّ موجود في كل مكان
فقط، عليك أن تبحث عنه
ورحْت أبحث، وأنقِّب ولكن دون جدوى
كمن يبحث عن قطة في عرين أسد».
الأذى الضروري
عن معلوم يتحدَّث وهو يكتب عمَّا يبدو مجهولاً. صحيح أن كل شيء وحتى المصير داخل في تلك الدائرة المعتمة؛ لكنه يستدرج كل ذلك إلى فضاء المعلوم، بالصاعق من اللغة، والأذى الضروري الذي يحتاجه الإنسان الحالم بخلوده في ذروة العدم الذي يتنامى من حوله!
الأذى الضروري بقدرته الدائمة على ممارسة استفزاز، ووضعه أمام راهن هزيمته.
وفي بحثه عن الخلود، إنما يشير بسبَّابته إلى المؤقت والعابر الذي أصبح بحكم الممارسة غير مرئي، وعصيِّاً على القبض. لا يبحث عنه لاستحواذ عليه، بقدر ما يبحث عنه لإعادة الحياة إلى براءتها وبساطتها وقدرتها على الإبهاج البرئ، ولا قيمة لكل ذلك بعيداً وبمنأى عن الإنسان. في كتابة حملت عنوان «الهزأة»، يمتزج المؤقت والعابر بالخالد والمقيم؛ ضمن قدرة البشر على إعادة الاعتبار لما أسرفوا في إهداره وتغييبه.
«رفعوا عن كاهلي كل هذه المُتَع الدنيوية التافهة والزائلة
وتركوا لي عظمة الخلود إلى الأبد على ضفاف نهر الكوثر»
اكتشاف العار!
في التجربة الشعرية العربية الحديثة، ربما لم ينشغل شاعر عربي في كل فنون الإبداع التي برُع فيها، من شعر ورواية ومسرح، وأعمال أخرى للسينما والتلفزيون، بالوطن كما فعل الماغوط؛ بحيث أصبح ثيمة وعلامة لكل مُنجزه الإبداعي، وإن اختلفت زوايا التناول بين عمل وآخر.
ليس الوطن باعتباره تراباً وهواء وحدوداً. إنه المعنى العميق والمقيم في كل ذلك: الإنسان. الإنسان الذي بدا للماغوط في كل رسائله أو حتى «كبسولاته» التي يمرِّرها في تلك الأعمال، ألاَّ شيء يدل عليه. لا شيء يوحي بأنه في القيمة من كل ذلك، وأنه المركز. لذلك، نراه في «طريق الحرير»، يمرِّرر دراية المُذَكِّر، وتذكير المقيم في الدراية:
كل يوم أكتشف في وطني مجداً جديداً
وعاراً جديداً
أخباراً ترفع الرأس
وأخرى ترفع الضغط».
هشيم الكتابة أيضاً
من الهشيم وعن الهشيم ظل يكتب؛ بتلك القوة الدافعة والمحرِّضة، والسبَّاقة إلى القبض على صور فريدة لواقع لم يعد فريداً لفرط ما اجترَّ هزائمه، وانكساراته، وتحلله، وانفصاله عن حقيقة الزمن؛ وكأنه في حال عداوة مع المستقبل الذي لن يجيء بكل ذلك التراكم والتراث الضخم من حضور العدم، أو عدم الحضور!
نقف على كتابته في «الهشيم» على هشيم كثيرين منا:
«كلما نجحت في حل مشكلة
واجهتني مشكلة أخرى
ومع مرور الأيام والسنين على أطباء ومراكز التشخيص والتحليل والمعارض والمسارح والحدائق والمقاهي والملاعب وأوكار الدعارة والميْسر والمخافر ومراكز الأمن، أنسى المشكلة السياسية، وأصبح أنا المشكلة».
في مجمل ما كتب الماغوط؛ لم يكن بمنأى عمَّا يدور من حوله. كونيٌ هو أيضاً في رؤيته لكل ما يمس الإنسان ويعنيه؛ انعتاقاً من الجغرافية التي ينتمي إليها، وما يتبع ذلك من فرز، وإن كان على تماس مركَّز مع إنسان الجغرافية التي هو واحد من أبنائها، في مساحات كبرى من تفكيره، وما يصدر عن ذلك التفكير، ومن خياله، وما يصدر عن ذلك الخيال.
وهو يكتب عن «المقاومة السرية» في الشاهر والظاهر من مقاومته بالسلاح الذي يجيده بجدارة: الكلمة في ذروة مرارتها وسخريتها وتعريتها وفضحها للواقع الشبيه بقبر. للحياة قرينة الموت. للابتذال والتفاهات والتجاوزات وقد أصبحت جزءاً من ذاكرة هذه الجغرافية وإنسانها!
لا يكف عن تناول القلاع في ظل الانكشاف والعراء والهشاشة التي تَسِمُ المراحل التي عاش، وتلك التي تزداد انكشافاً وعراء وهشاشة.
نقف على ظلال وصور وأشباح أيضاً من ذلك كله في «المقاومة السريِّة»:
«على رسْلكم ايها الضالعون في الإخفاق
والتردُّد على نفس القلعة المنيعة الشاهقة
إنني أختبر جراحي الشخصية
كما يختبر العازف أوتاره
والطاووس ذيله
والجندي سلاحه
والمناضل شعاراته، وقوة احتماله للبرد والجوع والعطش، قبل انضمامه إلى أي مسيرة أو ثورة».
مناديل الغياب أيضاً!
في كتابته «شجرة الكافور»، على سفر هو، مع كل نص... كتابة. على سفر في الذاكرة والمستقبل. مخيَّلة وقَّادة تنهمر بماء الدهشة التي لا تنقطع، ويمارس لعبه معها، كما يمارس لعبه مع الحياة في منعطفاتها المكلفة والفادحة. الحياة التي يحصيها خيبة خيبة، سخرية سخرية، تهكُّماً تهكُّماً؛ وصولاً إلى ما يشبه تبجيل الموت الذي كثيراً ما رأى فيه حياة. إنها مناديله التي يلوِّح بها في هذه البريِّة المُوحشة؛ ولو كانت موانئ ومطارات. كم من المدن مسكونة ومتورِّطة بالفيافي تلك؟!
«عيناي مخضلَّتان بدموع نادرة
لم تألفها القبور والمناديل من قبل
إنها أسهم نارية
تضيء الطريق لأي نصر أو هزيمة نادرة».
في اختيار الظلام
في الذهاب إلى الأضداد، يرسم الماغوط خريطة نوازع النفس في الشرق. الخيارات الغائمة. الوقوف على الحدود المُسنَّنة. ألا تملك خيار الحياة كما يجب؛ لذا ليس من حقك اختيار الطريقة التي بها تموت.
وفي اختيار الظلام، اختيار ما هو قائم ومُكرَّس ومفروض وسائد. ولا اختيار في ذلك. إنه ما تبقى للكائن البشري في هذا الشرق مما هو مُعدٌّ أساساً كي يُستدرج إليه.
سنقف على كثير من تلك المرارة والغصَّة في الكتابة التي حملت عنوان المجموعة «البدوي الأخير»:
«إنني ميَّالٌ للشروق تارة
وللغروب تارة أخرى
وريثما ينتهي علماء البيئة والاحتباس الحراري
من مؤتمراتهم وخطاباتهم وتوصياتهم
سأختار الظلام».
النوم أمام القصائد
سر القدرة على إيقاظ الدهشة لدى الماغوط، والرهان على براعته تلك، يكمن في أنه يكتب الكلام الذي يفكِّر فيه الأميون والشحاذون والبسطاء والتائهون والمحبطون واليائسون، والآملون، في الوقت يفكِّر فيه اللصوص والمفسدون وتجَّار الطوائف والحروب ومقاولو الفساد والمرابون والمخبرون، بلغة البصير بكل أولئك!
نقف على التكثيف في حضور البديهة التي يُراد لها أن تكون غائبة في نصه «برج الدلو». تغلب البساطةُ البديهةَ:
«مهما كنت أعاني من الفاقة والجوع
لا أنام على الطِوى أمام وزارة التموين
أو الجمعيات الخيرية
أو معونات الأمم المتحدة
بل أمام قصائدي».
صباح الهامش
يحضر جزء من نصوصه، بعيداً عن الإصدار موضوع الاستعراض والتناول، وهذه الكتابة تشارف على الانتهاء. يُوْلِي الهامش اهتماهه. الكفن الذي يراه عريقاً لندرة الحياة، للذين يشيّعون موتاهم؛ وهم موتى في الوقت نفسه! الهدوء الجدير بذلك الغياب. والحزن الذي سيشتريه ليضمَّه إلى تركة وخزائن حزنه!
«صباح الخير أيتها السطور
أيها الهامش
أيتها الصفحات البيضاء
أيها الكفن العريق المضياف
وأنتم أيها المشيِّعون...
ترفَّقوا بما تحملونه على أكتافكم...
فهو ليس فارغاً كما تتصوَّرون
سيروا بهدوء...
وسأشتري حزنكم بالسعر الذي تريدون!».
ضوء على السيرة
يذكر، أن محمد الماغوط شاعر وأديب سوري ولد في سلمية بمحافظة حماة العام 1934، وتوفي في 3 أبريل/ نيسان 2006. عمل في الصحافة؛ إذ كان من المؤسسين لصحيفة «تشرين». احترف الأدب السياسي الساخر، وله عدد من المسرحيات الشهيرة، إضافة إلى كتابته عدداً من سيناريوهات الأفلام، كما كتب الرواية. عرف بين شعراء الوطن العربي بوفائه لقصيدة النثر التي كتبها بعفوية بالغة، ولكنها كشفت عن موهبة استثنائية وعميقة.
بصدور مجموعتيه «حزن في ضوء القمر» و «غرفة بملايين الجدران»، احتل الماغوط مكانة كبيرة في المشهد الشعري العربي، وخصوصاً ضمن تيار قصيدة النثر التي بدأت تجد لها منابر واحتفاء كبيراً في العواصم العربية الكبرى.
عمل فترة الثمانينات من القرن الماضي رئيساً للقسم الثقافي بصحيفة «الخليج» التي تصدر من إمارة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة.
من أعماله المسرحية: «ضيعة تشرين»، «شقائق النعمان»، «غربة»، «كاسك يا وطن»، «خارج السرب»، «العصفور الأحدب»، و «المهرِّج».
ومن أعماله السينمائية: «التقرير» و«الحدود».
أما في الشعر فله: «حزن في ضوء القمر» (1959)، «غرفة بملايين الجدران» (1960)، «الفرح ليس مهنتي» (1970).
كما كتب للتلفزيون عدداً من المسلسلات، من بينها: «حكايا الليل»، «وين الغلط»، و «وادي المسك».
ورواية «الأرجوحة» (1974).
ومن المقالات والنصوص التي جمعها في إصدارات: «سأخون وطني» (1987)، «سيَّاف الزهور» - نصوص (2001)، «شرق عدن غرب الله» (2005)، و«البدوي الأحمر» (2006).
العدد 4632 - الأربعاء 13 مايو 2015م الموافق 24 رجب 1436هـ