ثلاث مناسبات تاريخية كبرى، اثنتان منها مرتا خلال الشهر الماضي والثالثة مرت قبل أيام، خلال الشهر الجاري، لعلها جديرةٌ سياسياً بالتوقف عند كلٍّ منها لما تنطوي عليه من عِبر ودروس ودلالات.
المناسبة الأولى مرور قرن على مذابح الإبادة الجماعية التي ارتكبتها الإمبراطورية العثمانية بحق الأرمن، والثانية مرور 40 عاماً على دحر الاحتلال الأميركي لفيتنام، والثالثة مرور الذكرى السبعين لانتهاء الحرب العالمية الثانية التي تكلّلت بهزيمة ألمانيا النازية إثر تمكن الجيش السوفياتي من دخول عقر دارها في برلين.
أولاً: إبادة الأرمن (مليون ونصف مليون ضحية)، فعلى الرغم من سقوط الدولة العثمانية الثيوقراطية وقيام نظام علماني مكانها، إلا أن هذا النظام ظلّ ينكر وقوع هذه المذابح وكأنها تدمغ العار به لا بالنظام الإمبراطوري الشمولي الرجعي الذي حلّ مكانه. وفي هذا العام وإزاء ضغوط الرأي العام العالمي، بدأت تركيا تعترف على استحياء بما حلّ بالأرمن من أهوال، وإن رفضت وصفها بأعمال إبادة، فهل يكون ذلك درساً للأنظمة الشمولية بأن تفهم بأن التاريخ سيظل يطارد سجلها الملطخ بالعار، ولن تستطيع الإفلات منه بالتزييف، وأنها ستُحاكم عاجلاً أم آجلاً على جرائمها بحق شعوبها كجرائم لا تسقط بالتقادم حتى تقوم الساعة؟
ثانياً: وفيما يتعلق بتكلل ملحمة الشعب الفيتنامي الأسطورية بالانتصار والتي مازالت مصدر إلهامٍ للشعوب المكافحة التواقة للحرية، فمازالت ندوب وجروح هذا الشعب من الجرائم التي ارتكبها بحقه الاحتلال الأميركي غائرةً لم تندمل. 360 من هذه الجرائم موثّقةٌ لدى البنتاجون نفسه، ليس من بينها مجزرة ماي لاي التي راح ضحيتها أكثر من 500 مدني جلهم من النساء والأطفال، والرش الكيماوي البرتقالي للغابات الذي فتك بالشجر والبشر ومازال المتبقون منهم على قيد الحياة في المستشفيات ومراكز الرعاية مشوّهين ومعوقين. دع عنك ما أسقطه الأميركيون من قنابل عنقودية ونابالم وفوسفور.
والمادة البرتقالية التي تم سكبها قُدرت بـ 19 مليون جالون، أما القنابل التي اُسقطت على فيتنام فقُدّرت بثلاثة أضعاف ما اُسقط في الحرب العالمية الثانية، وكل ذلك بغية كسر إرادة الشعب الفيتنامي، لكنها لم تفتّ في عضده وبقيت ملحمة كفاحه شاهدةً على قوة عزيمته الفولاذية، ومضرب المثل في فن التفاوض من موقع القوة مع العدو والمقاومة العسكرية مستمرة، وصولاً إلى دحره النهائي وفراره المُذلّ إثر سقوط سايجون في آخر يوم من أبريل/ نيسان 1975.
بيد أن الولايات المتحدة مازالت متمسكةً بغطرستها الامبريالية بعدم الاعتراف بجرائمها، وعدم الإقرار بحقّ هذا الشعب الفقير بالتعويض عمّا اقترفه جيشها من فظائع تقشعر له الأبدان بحق أبنائه.
ثالثاً: دحر ألمانيا العنصرية النازية، فهذه المناسبة السبعينية للانتصار الذي حققه الحلفاء في الحرب العالمية الثانية على المحور بقيادة ألمانيا النازية، وبدلاً من أن تكون فرصةً للإتعاظ وأخذ العِبر والدروس من قِبل الحلفاء، وعلى وجه الخصوص أميركا وروسيا وفرنسا وبريطانيا، عبر البحث عن القواسم المشتركة لدحر الإرهاب الذي يهدّد العالم في عصرنا، وجدنا الحلفاء الغربيين يرفضون بعنجهيةٍ فكرة الاحتفال بهذه الذكرى السبعينية لهذا النصر المشترك الذي تحقّق بفضل جيوشهم وشعوبهم مجتمعةً، والتي قدّمت تضحياتٍ جمّة، بل وانبرت الأقلام التي تحاول تزوير حقائق تاريخ الحرب.
وأياً كان رأينا اليوم في النظام الشمولي الدكتاتوري السوفياتي السابق، فإن جيشه المكوّن مما يقرب 160 قومية ودينية، هو الذي كان له شرف نيل اللحظة الحاسمة ذات الرمز التاريخي، لحظة اقتحامه عقر دار النازية برلين، ورفع العلم الأحمر على مبنى الرايخ الثالث. والشعوب السوفياتية هي التي قدّمت التضحيات الأعظم في الحرب حيث يُقدّر عدد من سقطوا في هذه الحرب بـ 26 مليون مواطن سوفياتي من بين 80 مليوناً هم إجمالي ضحايا الحرب العالمية الثانية.
على أن النازية والفاشية وإن تمّ دحرهما كدول ممثلة في دول المحور، ألمانيا وإيطاليا واليابان، إلا أنها عادت كما ذكرنا تحت رايات دينية إسلاموية وقومية وقبلية جديدة في منطقتنا العربية، وللأسف فإن دول الحلفاء الديمقراطية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، هي من احتضنت الجماعات الفاشية الجديدة، والولايات المتحدة كما نعلم لم تذق حتى الآن طعم أهوال الحروب قط، وظلّ مواطنوها وعمرانها في كل الحروب التي خاضتها وتخوضها بمنأى عن أهوالها وشرورها، ولربما هنا بالضبط يكمن سر واحدةٍ من أهم إشكاليات غياب رأي عام قوي أميركي معادٍ لتدخلات بلاده العسكرية وللحروب تحت مبررات شتى.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 4630 - الإثنين 11 مايو 2015م الموافق 22 رجب 1436هـ