مستحيلٌ أن يكون العقل هو الذي يحكم العالم في ظل كل هذا الجنون المفتوح على الحماقات والتهور وقطع الصلات والأرحام، والتجاوز الذي لا نهاية له.
مستحيلٌ أن يكون العقل حاضراً بالنظر إلى طبيعة الخلل الذي يسود علاقات البشر بعضهم ببعض، بحيث صارت العلاقات السوية والمستقرة ضرباً من الشذوذ والجنون، والعلاقات المضطربة والقلقة والمؤذية عاديةً ولا تبعث على الدهشة والاستغراب.
يستميت كثيرٌ من البشر لتدمير ما بنوه من علاقات ربما امتدت لعقود. تنسف وتفصم عراها في ثوانٍ ولحظة هياج وغضب وسوء فهم. لا أحد يمنح نفسه الوقت الكافي لتأمل ضرورة وأهمية مثل تلك العلاقات بنمائها واستقرار أطرافها. تماماً مثل الوقت الذي لا تأمل فيه ساعة تنتهي وتتحول من أخوّة إلى عداء، ومن درع حصينة في وجه أنواء الزمن وغوائله إلى رافد لتلك الأنواء والغوائل.
يخسر البشر أعمارهم كلما خسروا تلك العلاقات التي سهروا على المحافظة عليها ربما لسنوات. يخسرون من يكون في مقاماتهم، ويسد غيابهم، ويكون العين التي بها يرون، والأذن التي بها يسمعون، والقوة التي يشدون ظهورهم بها حين يعجزون ويمتد بهم العمر ويقتنصهم الوهن والضعف.
كثيرٌ من العلاقات التي هي ابنة لحظتها أو ساعتها، تتلاشى ولا تعمّر. كثيرٌ منها يدوم ويتجذر، بقليل من الاستيعاب. استيعاب نوازع ومثالب الآخر، مثلما هو الأمر مع استيعاب المضاد لكل ذلك. إنها مسألة الوقت الذي يسخره الإنسان لتقييم أي أمر، وقناعته بذلك الأمر في المقام الأول.
كيف لهذا العالم أن يعرف استقراراً مادام البشر عاجزين عن تحقيق تلك القيمة ولو في الحدود الضيقة؟ من المحيط المحدود، امتداداً إلى المحيط الأكبر والمفتوح على بشر وأمم، يتحقق ويبرز، ويصير قيمةً كبرى لا غنى لبشر عنها، لينعكس ويمتد إلى كل ما حولهم.
وكلنا يعرف أن مثل تلك العلاقات المدهشة والمستقرة بين البشر لا تنتهي برحيلهم عن هذا العالم. فلها في الحياة أثر يبقى، يستلهمه وينحو نحوه الذين كان لهم نصيب من تلك العلاقات، عميقة كانت أو عابرة. تظل مليئة بحضورها وسحرها، ليمتد ذلك الحضور والسحر في القليل أو الكثير مما بنوه من علاقات، يلتمسون ما يحصن علاقاتهم، وينأون عن كل ما يؤذيها ويهددها وينخر في بنيتها.
وبالعودة إلى العقل الغائب نفهم طبيعة الاستقرار الغائب، والعلاقات الملغمة الشبيهة ببرميل بارود. وأخطرها تلك التي يتم فيها النوم على المشكلات والأزمات والأحقاد التي تبدأ صغيرةً لتكبر متحوّلةً إلى أكوام وجبال لا يزيلها ويزحزحها إلا الموت: موت أحد أطراف تلك العلاقة، هذا إن زالت وتزحزحت بذلك الموت.
وحين يترك للتهور والجنون أمر التحكم ببناء العلاقات بين البشر، أفراداً كانوا أو جماعات ودولاً، فمن الجنون أيضاً الاعتقاد بأن مثل العلاقات تلك في ظاهرها يمكن أن تنطلي على أحد، وأن يكتب لها الاستمرار، والأهم من كل ذلك، أن تنتج ما ينفع أصحابها والبشر بشكل عام.
فقدنا عقلنا، فبات العالم بعيداً، في نأيه الذي لا تستطيع أن تمتد إليه أيدينا. إنه زمنٌ يجب أن يكرّس للبحث عن العقل الذي غيبناه وأضعناه، كي يتسنى لنا التركيز على علاقات تجلب الاستقرار وترسخه وتعمقه، في عالم بات سطحياً وهشاً ومهدّداً لنا.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 4629 - الأحد 10 مايو 2015م الموافق 21 رجب 1436هـ