«هم الذين يُحدِّدون لنا ما هو الوطن». كتب درويش ذلك في «يوميات الحزن العادي»... «الوطن بين الذاكرة والحقبة»، وهي كتابة لا تُعبِّر فقط عن وطن مُحدَّد وذاكرته التي تُريد جهاتٌ ودولٌ وحتى أشخاص أن تكون في ما بعد الغيبوبة والعدم. وطن صار هبةً للذين كُتبَ عليهمُ التيه، وفي استهزاء وجودي نحن أطرافه. صرنا نحن عنوان ومضمون التيه وما بعده، إن كان للتيه ما بعد!
لا تعبِّر عن وطن مُحدَّد؛ بل تُعبِّر عن طبيعة الأوطان ما قبل الألفية الجديدة، وربما ما قبل اتفاق الدول النادر على مُخطَّط «منح وطن بلا شعب لشعب بلا وطن»، وتنسحب على الراهن مما تبقَّى من ملامح أوطان، تبرز في حدودها، وعَلَمها، ونشيدها الوطني، وجيشها المستجمِّ في الثكنات، وسفاراتها، وعضوياتها في لجان ومؤسسات المنظمة الدولية، ومجلس الأمن الذي أصبح «عائلياً»!
ثمَّة من تبنَّى تلك الخرافة: «خرافة وطن بلا شعب» مع أن الشعب هناك قبل أن تُستبدل الناقة بمركبات الدفع الرباعي، وقبل تاريخ ومكامن المخططات والتقارير؛ وحتى مكامن النفط، وقبل بروز القوى النووية، لم تطرأ مشكلة مع من كان على رأسها قبل عقود، وتكشف ذلك الانحناءات والخضوع، ومهرجانات الاستقبال وحتى طوابير من شعراء النبط!
ومع فارق لا يُنسى، مفاده، أن الذين يستوطنون في بعض البلدان، جاءوا من أوطان لفظتهم، لأنهم يُمثلون التخلُّف والعار والعالة على أهلهم قبل الأوطان التي جَلَبَتْهم، والاستعداد ليكونوا موضوع سلعة في أكثر من سوق نخاسة، ولمن يدفع أكثر، ولا يهم بعد ذلك الانشغال بالسؤال الوجودي: من هم؟ ومن نحن؟ ولا يهم بعد ذلك: سنواجه مَنْ ونقتل مَنْ ونزجُّ في الأسْر منْ؟ ما دام ذلك التطبيق سيُخرج المستوطنين الجُدد ولو وهماً وخرافة أيضاً من دائرة العار والعالة والتخلُّف والفاقة، وممارسة دور اغتصاب المكان والزمان والحق والحصَّة، مع ثقة أنهم سيُحققون الاندماج مع الذين اغتصبوا حصة من حقهم في المعرفة والصحة والعمل والوجود عموماً، وهم يعلمون هراء الاندماج الذي لن يتحقق ولو بعد ملايين السنوات؛ لأن الطارئ والدخيل ومُغتصب الحق مثل الموت قبل أوانه! وما الأصوات التي تتلمَّس وتترجَّى وتُعاتب على استحياء في أمر وجودي كهذا إلا انتباه السكران على يوم القيامة!
وفي النُسَخ المتكرِّرة لمن يملكون وطناً يلفظهم بحثاً عن وطن يمنحهم امتيازات؛ ماداموا قادرين على تنفيذ المهمات القذرة! لأن لا مهمات خارج ذلك الوصف تليق بالدور والأداء؛ إذ لم يُؤتَ بهم لتنفيذ حملة بيئية لتنظيف السواحل، أو حملة حفظ عشرة أجزاء من القرآن الكريم في 20 يوماً، أو حملة للدعوة إلى الله!
في عنوان النص نفسه «الوطن بين الذاكرة والحقبة»، لا تحتاج إلى اكتشاف أن الزمن في عيِّنة من الأوطان تلك، مما يتوهم - بعضهم - بإمكانية تجريدك من جذورك، وإحلال الغريب الذي جاء يتنفس هواءك، ويأخذ الحصة الأكبر من شمس بلادك، ليس باعتباره زمناً مشتركاً بين البشر لكل منهم حصته، بقدر ما تُسنُّ قوانين هي سابقة في تاريخ التشريع البشري، تجعل من أولئك بنداً ونصاً يحول بينك وبين الاعتراف بحقك، أو الاعتراف بذاكرتك؛ وهو تماماً فحوى كتابة درويش «لا يعترفون بحقك، ولا يعترفون بذاكرتك»، وفي الاثنين معنى ليس مُضْمَراً؛ بل فاضحاً وشاهراً وقاحته أمام العالم، وربما يتحوَّل في يومٍ ما إلى دليل إرشادي إلى المواطنة ضمن عنوان: «جرِّدْهم من ذاكرتهم؛ تصبح ابن الأرض وأصل جذرها»!
ولأولئك حق تعريف الوطن الذي تُحرم منه ويُصادر «حتى تعريف الوطن لا حق لك فيه»!
بالسليقة لا افتعال المؤامرات والإمعان في الجلْب والحلْب أيضاً تُؤسَّس الأوطان. بالتأسيس تقوم لا الهدم. بالاعتراف بما كان وما هو كائن وما سيكون. يمكن للمال أن يشتري كتَبَة تاريخ؛ لكنه لن يتمكَّن من خلق أو صناعة تاريخ حقيقي لا تدخُّل لفجور المال فيه.
لكل ذلك ذاكرة؛ مهما حاول الطارئون أن يعبثوا بالمزاج المحيط؛ وأن يتلاعبوا بالثوابت؛ ولكنهم لن يستطيعوا أن يعبثوا ويتلاعبوا بالأرض وشهادتها، والذين تشبه طينتها طينتهم؛ بتلك الاستماتة لدفعهم دفعاً لتقديم دليل على أنهم هنا، وأنهم التشكُّل والقيمة والمعنى؛ وأيضاً هذا العذاب الصريح الذي يعيشونه، ولن يكونوا على انسجام معه على المدى الطويل؛ كما يتوهَّم صانعو ذلك العذاب!
سنجد ملامح وصوراً وثيمات ورموزاً ومجازاً ومزاجاً من كل ذلك في المضيء والمُعبِّر من ذلك النص؛ اختصاراً لتهكُّم ينزع أرواح الذين يعبثون بالحياة والبشر: «ذلك الطفل الذي أسْلمتْه رحم أمه إلى الأرض، وأسْلمتْه الشرطة إلى المنفى، وأعاده الحنين إلى أرض مُفترِسة، لم يُدرك أنه مُطالَب بفلسفة الأشياء...».
وسنجد أيضاً تلك الفلسفة التي كانت تبدو المطالبة بها عابرة؛ ولكنها في العادي من الحياة، بكل هذا الصَلَف واليقين الزائف بأن الذين من وراء كل ما يحدث هم صنَّاع الحياة، وإن احترفوا الموت، وهم صُنَّاع الحقيقة، وإن كانوا بيت الزيف وداءه! وكل ما يُظَّنُ أنه انحناء لن يتجاوز ترتيب فقرات الأداء لوضع حد لكل هذا الفجور الذي يحاول إقناع بهائم بأنه التقوى؛ والانحطاط الذي يُمرَّر على أنه دنوٌّ من سدْرة المنتهى إلا قليلاً! ولا يغيِّر من واقع الخيارات شيئاً تساؤل درويش الذي لا يخلو من خبث جميل: «من شِدَّة الانحناء صار ظهري قوساً، فمتى تُطلق سهمك. من شدَّة الانحناء صار ظهري قنطرة، فمتى تعبر»؟
تحدَّث كثيرون عمَّا وراء وأمام التاريخ كثيراً؛ لكنهم كانوا يفتقدون إلى لمسة الضمير كي يُمرَّر ما تحدَّثوا عنه، أو ما يفكِّرون به؛ باعتباره خلاصاً للذين اختلط عليهم الأمر بين غصن الزيتون وحاملة الطائرات، وبين عرائض التسوُّل ونصوص المديح الخبيث و»رسائل إخوان الصفا»! ولا يكفُّ درويش عن الأخذ بنا إلى الجارح من الكلام: «حدث مرة واحدة في حياتي أن رأيت التاريخ مُدجَّجاً بكل هذه الأسلحة وأغصان الزيتون الشرسة. لم يحدث أن تحوَّل إنسانٌ إلى صخرة، ولم يحدث أيضاً أن تحوَّلت صخرةٌ إلى جندي».
ثم إنه لا يلزمنا وضع عذْر لمن اختلطت عليه رؤية وتفسير مهمّة ودور غصن الزيتون، وخسف وخراب حاملة الطائرات؛ تماماً كما لا يلزمنا استيعاب وتفهُّم بيع وطن لمن لم تتحمَّلهم أوطانهمّ!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4629 - الأحد 10 مايو 2015م الموافق 21 رجب 1436هـ