هل مِنْ ذكرى مرَّت علينا هذه الأيام؟! ربما نَفْي نابليون إلى جزيرة إلبا؟ أو ربما دخول الأميركيين الحرب العالمية الأولى؟ أم الإطاحة بنظام جعفر نميري في السودان؟ كلا، باعتقادي أن هناك من التاريخ ما هو أهم من كل ذلك ضمن مسير الأيام الماضية. إنها ذكرى مرور 111 عاماً على إبرام الاتفاق «الودي» بين انجلترا وفرنسا لتقاسم النفوذ في العالم العربي، والتي صادفت أمس الجمعة الثامن من مايو/ أيار.
ربما يستغرب كثيرون، ويعتبرون استحضاره أمراً مُبالغا فيه. تأكدوا أنه لا يوجد استغراب في ذلك. إنه أمر مهم بالنسبة لنا كعرب (بل ولغير العرب أيضاً). هل يقول أحدٌ ان وعد بلفور (2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917م) كان أمراً عادياً؟! وهل يقول أحد ان اتفاقية سايكس بيكو (نوفمبر 1915م - مايو 1916م) شيء عادي؟! بالتأكيد لا، فتلك أعادت صورة العالم العربي وطريقة حياته. كذلك الحال بالنسبة للاتفاق «الودي» المذكور، الذي كانت له لوازم استعمارية وتأثيرات طويلة الأمد ومتراكمة على كل من المغرب العربي ومصر لغاية الآن.
بالرجوع إلى الاتفاق (اللاودي بالنسبة للضحية) سنرى أنه نصَّ على إطلاق يد انجلترا في مصر على أن تحفظ المصالح الفرنسية فيه، مقابل إطلاق يد فرنسا في المغرب مع عدم إغفال المصالح الإسبانية فيه. كما نص الاتفاق على العمل بمبدأ الباب المفتوح في موانئ المغرب والبحر الأحمر. كما ألحِقَت بالاتفاق بنود سرية كثيرة من بينها إطلاق يدي الدولتين في النظم القضائية والتشريعية في مصر والمغرب.
كما نصت المادة الثالثة من البنود السرية لذلك الاتفاق على أن الحكومتين الفرنسية والإسبانية توافقتا على منع «دخول بعض المناطق المجاورة لمنطقة سبتة ومليلة» التي قُرِّرت ضمن دائرة النفوذ الإسباني. لقد كان ذلك الاتفاق أشبه بتقاسم كعكة يمتد طولها لأزيد من 6000 كيلومتر مربع، دون أن يكون لشعوبها أدنى كلمة أو رأي فيما يجري.
ومن المضحك المبكي هنا، أنْ قام إمبراطور ألمانيا وليم الثاني بزيارة لميناء طنجة المغربي بعد الاتفاق بعشرة أشهر وألقى خطاباً حماسياً دعا فيه إلى استقلال المغرب وتحويل قضيته إلى قضية دولية، قائلاً ان بلاده تَعتَبِر مولاي عبدالحفيظ سلطاناً شرعياً على المغرب.
لم يكن للألمان هدف نبيل من تلك الخطوة، ولم يكونوا أهل دعم للحريات ولاستقلال الدول ومناصرة القضايا العادلة في ذلك الأوان، بقدر ما كانوا يريدون تخريب الاتفاق الامبريالي، الذي أخرجهم من الصفقة كونهم قوة منافسة، فأرادوا الانتقام من المستأثرين.
في ذلك المشهد التاريخي، صور يُمكن تذكرها جيداً ونحن في هذا الزمان. فالمصالح لم تزِدْ أخلاقاً عما كانت، ولا السياسة أصبحت أنظف عما كانت. ولم يتبدَّل الباعة عن بيعهم، ولا المشترون عن ابتياعهم، ولم يبتعد الفرنسيون عن مكانهم ولا الانجليز كذلك، كل ما في الأمر أن ازدادت الجوقة بدخول الولايات المتحدة الأميركية على خط الهيمنة الجديد بعد الحرب الكونية الثانية. هذا يعني أن القضية هي هي لا تبديل فيها سوى في التاريخ والأشخاص والظروف والوسائل، أما الجوهر فهو كما كان.
قد تكون هناك مواقف لبعض الدول صاحبة التاريخ الإمبريالي تجاه بلدان العالم، ويوحون لنا بأنهم حريصون علينا كدول مستقلة لكن الأمر ليس كذلك، فالتجارب ليست بعيدة عن تأكيد ما يناقض هذا الادعاء. هذا ليس منطقاً استسهالياً في النتائج وفي قراءة المشهد، بل هذه هي الحقيقة: قوي وضعيف، أو مستبد ومستضعف.
في السابق تقاسم الانجليز والفرنسيون النفوذ في العالم ومعهم الإسبان إلى جانب قوى أخرى. وفي وقت لاحق، تقاسم الأميركيون والأوربيون النفوذ في العالم أيضاً بحجة مواجهة الشيوعية خلال الحرب الباردة. واليوم، يدخل الأقوياء بعناوين أخرى لكن جوهرها واحد. صراعات وأحلاف بينهم في آسيا وإفريقيا وسطاً وشمالاً وغرباً، وصولاً إلى قرنها الأدنى.
وحتى عندما بدأ الغرب ينسحب «عسكرياً» عن بلدان كثيرة في العالم، أبقى على مَنْ يؤمِّنون لهم مصالحهم رغماً عن أنف الشعوب الطموحة. ألم يكن كارلوس في الفلبين وأوغستو بينوشيه في تشيلي وسوهارتو في إندونيسيا وبهلوي في إيران وفرانسوا دوفالييه في هايتي وشون دوهوان في كوريا الجنوبية وموبوتو سيسيسيكو في الكونغو وغيرهم وكلاء عنهم وهم غاية في الطغيان؟ فتشوا عن المصالح لتعرفوا أين هي الحرية.
في السابق، وقف إمبراطور فرنسا في ميناء طنجة ليؤيد استقلال المغرب ليس حباً في المغاربة بل نكاية بغرمائه من الانجليز والفرنسيين ولتأمين مصالح ألمانيا في مضيق الجبل والموانئ المحيطة. واليوم، يقف أكثر من زعيم غربي ليؤيد الحرب في سورية (وليس الثورة) حتى لو قُسِّمت البلد لساحل وداخل وشمال وتشرّد نصف أهلها. هل هذه محبة منهم للسوريين أم نكاية بالروس (في أوكرانيا والبلطيق) ثم تأمين مصالحهم في البحر الأبيض المتوسط وعموم المنطقة المرتبطة بالشرق الأوسط وبآسيا الوسطى؟!
كلنا قرأ كيف قام الملك لويس السادس عشر ملك فرنسا «الرجعي» بدعم الثورة الأميركية لا إيماناً منه في الحرية التي كان يقمعها في بلاده، بل نكاية بالانجليز الذين كانت الثورة الأميركية تقاتلهم. بل وحتى الفرنسيين، وقبل الاتفاق الودي سنة 1904م مع الانجليز كانوا يدعمون المعارضة المصرية، ولكن ليس حباً في قوى مصر الوطنية بل نكاية بالانجليز غرمائهم في المنطقة.
هذا تاريخ قابل لأن يتكرر وهو فعلا يتكرر.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4627 - الجمعة 08 مايو 2015م الموافق 19 رجب 1436هـ
كل الدول سابقا وحديثا لها أجندتها الخاصة وهي ليست
جمعيات خيرية سباقة للخير وانما هدفها السيطرة علي مقدرات البلد ..ولكن الي متي هذا الاستغفال من الشعوب التي تثق في القوي الاجنبية؟
شكرا لك
مقال غني يستحق القراءة
القوة والثروة!
القوة والثروة هي التي تحكم وتُحترم، والا ما كان لأي دولة فقيرة ان تهدد بإبادة محافظة كاملة (في اليمن) عن بكرة ابيها بينما ما يسمى بالمجتمع الدولي و الامم المتحدة ليس لديها الا التعبير عن القلق و الأسف ، لا صوت الا صوت الدولار (النفط) والسلاح.. اما المستضعفون فلهم ان يخفضوا الرؤوس مع كل وقوع قذيفة او صاروخ...
تحية الصباح
مقالاتك فيها التاريخ والاحصائيات والتحليل وربط الاحداث . مفيدة فعلا وشكرا للوسط