العدد 4627 - الجمعة 08 مايو 2015م الموافق 19 رجب 1436هـ

«أولاد النكتة... «بنتْ» الواقع!

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

في الوقوف على جانب من ملامح النكتة، يمكن القول إنها نص مُحدَّد الهوية. بتلك الكثافة، وذلك الاختزال. كلما كثر الكلام في النكتة، كلما أصبحت شيئاً آخر. ثرمومتر الواقع. تنضج وتتعمَّق كلما كانت الشعوب التي تطلقها على قدر كبير من الوعي والعمق أيضاً. تمر النكتة بمراحل من الانهيار والانحطاط، تماماً كالشعر، وبقية الآداب. تنحطُّ ولكنها لا تنتهي.

هي ابنة الواقع. ابنته المتمردة عليه، وهي ابنة الخلل بالضرورة. لا تزدهر النكتة، ولا تطلع وتصعق وتُدهش إلا على حساب خلل في الواقع من حولنا. تقول النكتة ما تريده أن يكون. أن يكون في الاتجاه المعاكس لواقع الحال.

النكات المرفَّهة تعبِّر عن شعوب مرفَّهة، وأحياناً العكس. وتلك المليئة بالمرارة، تعبِّر عن المسكوت والمقموع من تلك المرارة التي لا يُراد لها أن تطفو على السطح بوجهها السافر، وخصوصاً في ظل أنظمة لا ترعى إلاًّ ولا ذمَّة لشعوبها.

وإذا كانت النكتة السياسية تجد جمهورها العريض اليوم، فلأن طبيعة الذين يقومون بالأداء السياسي في العالم العربي، محط ومركز التذمُّر والنقد الحاد الذي تعبِّر عنه النكتة في اختزالها لجانب من ذلك الأداء؛ لذا لم يكن مُستغرباً أن تكون لبعض الأنظمة وحدات خاصة لتتبُّع ورصْد النكتة والمؤشرات والدلالات التي تختزلها وتحويها.

حدث ذلك في عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، وكذلك مع خلَفه أنور السادات، بإنشائه جهازاً خاصاً وظيفته جمْع النكات اليومية التي يخرج بها الشارع المصري، وعليها تُقاس كثير من أطياف المعارضات وأساليب تعبيرها ومستوى ودرجات وعيها.

إلا أن النكتة لم تظل محصورة ضمن تلك الأجواء وإن كانت غالبة ومهيمنة وخانقة، فقد تذهب النكتة في تهكُّمها إلى مستويات تمسُّ طبيعة المجتمعات وتفكيرها ونظرها وعلاقات بعضها بعضاً، بالاشتغال على تنويعات هي على تماس مع التفاصيل اليومية، ولعلَّ الكاتب المصري الساخر جلال عامر (توفي يوم 12 فبراير/ شباط 2012؛ أثر أزمة قلبية أثناء مشاركته في مظاهرة مناهضة لحكم العسكر)،

النموذج الذي تكتنز كتاباته بالكثير من النكتة الساخرة، بعيداً عن الترتيب والسياق الذي نعهده فيها، باعتبارها قصة قصيرة جداً، تنتهي بالصدمة أو ما يشبهها: «نحن ديمقراطيون جداً… تبدأ مناقشاتنا بتبادل الآراء في السياسة والاقتصاد وتنتهي بتبادل الآراء في الأم والأب»!

وأكثر الموضوعات خصوبة، وتجد فيها النكتة مداها وأفقها الواسع، تلك التي تتناول وتعكس إيمانها بخديعة «الديمقراطية» في العالم العربي، ولأن الشعب المصري هو من أوائل الشعوب التي اخترعت النكتة في العالم، لا يترك فرصة إلا وتندَّر وسخر منها في هذا الباب، بعفويته وقدرته على تكثيق القيم التي يريد إيصالها. وباللهجة المصرية المُحبَّبة «واحد شغال في فرز اللجان الانتخابية... فواحد صاحبه بيسأله: بقى معقول إنتوا بتقعدوا تفرزوا الأصوات دي كلها؟ قال له: ولا بنفرز ولا حاجة... التعليمات واضحة وصريحة... إحنا نرمي الورقة بتاعة الناخب في الهوا... ولو نزلت على وشَّها أو ضهرها يبقى وطني (عضو في الحزب الوطني الحاكم)... ولو على سنَّها يبقى معارض»!

وفي التاريخ العربي والإسلامي الكثير من النكتة تلك، وإن تركَّزت أغلب موضوعاتها في جانب اجتماعي، إلا أن السياسي لم يكن غائباً، لكنه لم يكن بذلك الرواج، لما لذلك من تبعات مُكلفة.

«سأل رجل آخر عن درب يقال له «درب الحمير»، فقال: ادخل أي درب شئت»!

وتزوَّج رجل أعمى امرأة قبيحة فقالت: رُزقتَ أحسن الناس وأنت لا تدري. فقال: يا حمقاء، فأين كان البُصَراء عنكِ»؟!

إنهم أولاد النكتة الذين يطلعون علينا بـ «بنت الواقع»!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4627 - الجمعة 08 مايو 2015م الموافق 19 رجب 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 3:02 ص

      مقال رائع

      احسنت .. مقالك جدا جدا جدا رائع ..

    • زائر 1 | 2:07 ص

      نحتاج النكته

      فعلا الناس الآن برغم الجراحات و الهموم تريد أيضا سماع نكته حتى لو بايخة فقط من أجل التنفيس عن الخاطر و ضغوط الحياة

اقرأ ايضاً