بكل هذا الانفجار الطائفي. بكل هذا الفرز والقتل على الهوية. بكل هذا الذبح اختلافاً على طريقة الوضوء والصلاة، والنظر وفهم الدِّين، واستنباط الحكم. بكل هذا التمييز الظلامي البغيض في ظل ادِّعاء حضور المؤسسات في دول لا دليل على أنها حاضرة. في ظل مُخططات التقسيم والتشظية والاستفراد ببشر الجغرافيات التي يُراد لها أن تكون مقطَّعة الأوصال. في ظل الزمن الذي نحياه وهو ينهمر دماً، ورؤوساً مقطوعة، وجَلْداً على الهواء مباشرة. في ظل أسواق السبي التي امتدَّت ساحاتها؛ السبي المجازي منه والواقعي. في ظل الوكالات المفتوحة من الله، كما يدَّعي كثيرون؛ لم تعد فلسطين في الصدارة من القضايا، وهي التي كانت في المُلحِّ من الأولويات، والمتقدِّم من الملفات. لم تعد تحظى بالذي هو أدنى، بانشغال عالم عربي يُحضِّر؛ بل حضَّر نفسه للانقسام والتجزئة، والموت بكل أنواعه وصوره.
لا مكان لفلسطين اليوم في ظل هذه الهستيريا. فلسطين كانت في ذمة التاريخ بالنسبة إلى أنظمة عربية، وهي في طريقها إلى ذلك بالنسبة إلى بعض الشعوب التي لا وقت لديها لتحرير ما تراه خارج نطاق حدودها، وهي تعاني أكثر من احتلال «وطني» وآخر أجنبي.
لم تعد فلسطين حبَّة القلب وعضلته في الضمير العربي الذي كان ضميراً. لم تعد درس الوعي الأول لأكثر من أجيال، وُلدوا وماتوا على الهزيمة، ومنهم من ينتظر، إلا ما ندر من نصر، لا يُراد الاعتراف به، لأنه يخدش كبرياء الذين كدَّسوا السلاح لعدو الداخل! لأنه بإيقاع السياسة الراهن، لا نصر يلوح في الأفق، بغَلَبة شراء إخوة وبيع آخرين، واصطناع حلفاء، واختراع أعداء.
وحتى العودة إلى أجمل ما كُتب في الأمل... في زمن كانت للمواجهة مع «إسرائيل» قيمة وعنوان شرف، وبقايا دليل على الحياة، تُحيلنا إلى الحنين في حدود النص فحسب. الحنين إلى أن نكون كباراً، والحنين إلى أن نكون مباشرين في صدِّ العدوان، لا المبادرة في وضع حدٍّ له.
نُقلِّب شيئاً من الذاكرة... ذاكرة الاعتياد على صد العدوان ذاك: ربما في استباحة المدينة العربية الثانية (بيروت)، وقتها كان آرييل شارون، يرى فيها خطأ جغرافياً يجب تصحيحه، ونفَّذ ذلك بالاجتياح الذي رسم لوحته السريالية بالنسبة إلى العالم وبالنسبة إلى «إسرائيل»، ولكنها كانت مباشرة ولا تحتاج إلى التورُّط في التأويل.
يومها كتب محمود درويش كلاماً عن الطرف الثاني من الشارع، وعن اشتباك اللحم مع الحديد. كتب كلاماً هو بميزان فك الارتباط مع المواجهات، والتقاعد حتى عند صدِّ العدوان في يومنا هذا، بمثابة تدريب على جماليات اللغة، بموازاة التدريب على خلاعة الواقع والاعتياد عليه.
كتب يومها «وقفت هناك، على الطرف الثاني من الشارع، يوم أطلقنا النداء المضادَّ لزحف الخرافة علينا من الجنوب. يوم كوَّر اللحم البشري عضلة الروح وصاح: لن يمرُّوا، ولن نخرج. اشتبك اللحم مع الحديد، وتغلَّب على عِلْم الحساب العسير، فتوقَّف الغزاة على السور. هنالك وقت لدفن الموتى، وهنالك وقت للسلاح، وهناك وقت ليمرَّ الوقت على هوانا... لتطول البطولة، فنحن، نحن أصحاب الوقت...».
بعد ثلاثة وثلاثين عاماً، من قال عنهم درويش «لن يمرُّوا» فُتحت لهم بوابات المدن الكبرى والصغرى. وباتوا يخطِّطون المدن، ويحرصون على عدم حصانتها. ليست حصانة الطوب؛ بل الحرص على هشاشة الإنسان؛ كي لا يلتفت إلى وجعه وعاره الدهري: فلسطين.
ومن بعد «اشتباك اللحم مع الحديد»، دخلنا زمن اشتباك الطوائف بالطوائف، والتأويل بالتأويل، والصراع على من بيده مفاتيح الجنة، ومن بيده وكالة إدخال أعدائه إلى النار.
إنه زمن المواجهات؛ لكنه زمن مواجهات الذين كانوا إخوة، فأصبحوا أعداء بعد سهر على التأويل، وبعد اشتغال مضنٍ ومدفوع من قبل إعلام لن يحيا إلا بالفتنة، ولن يروج إلا بمزيد من إيقاظ التاريخ!
التاريخ الذي لا يُراد له أن يكون مُحايداً؛ أو خارج لعبة الصراع في الدِّين الواحد؛ بل في العمق منه. ومن التاريخ نفسه، يمكن لأيٍّ منَّا أن يُكيِّف إيمانه وتأويله، والطريقة المهذّبة في الذبح!
وفَّر لنا العدو أكثر من أرضية مُشتركة للاقتتال؛ في الوقت الذي أقام لنا نماذج مصغرة من فلسطين لم تنجُ منها الجغرافية المُفتَّتة أصلاً؛ لكن إصراراً عجيباً يأخذ بنا هذه المرة إلى أن نُعيد النظر في جغرافيتنا الجامدة منذ «سايكس بيكو» و»وعد بلفور»؛ ربما لنعيد الحيوية للعبة الحصَص، ورسم الخرائط التي لن ترسم المستقبل بقدر مصادرتها له، وجعْلنا ننام ونصحو على حاضر لا ذاكرة له. وحين تتسلَّل الذاكرة خارج الزمان والمكان، من السخف الحديث عن الأولويات، والتي لم تعد فلسطين في مقدِّمتها!
ليست «ذاكرة للنسيان» التي كُتبت بعد اجتياح بيروت، خارج نظام النسيان الراهن الذي تأبَّد؛ في ظل السهر وتأسيس ذاكرة وحيدة: ذاكرة حروب الطوائف، واللهاث وراء آخر صَرَعات الذبح والإبادات.
في انعدام الذاكرة التي نشهد؛ يُراد لفلسطين أن تكون بلا ذاكرة ولكن هذه المرة بترتيب فوضى عربية خصوصاً، وفي الشرق عموماً؛ كي يتسنى للمحتل النوم مطمئناً على نظامه في الإقامة الطويلة التي لا رادع يقول بنقيضها؛ أو إمكانية تخريبها؛ بل لا نوايا؛ لأن النوايا تحتاج إلى ذاكرةٍ في نهاية المطاف، وهي غير مُتحققة في التسليم الذي نشهد!
وفي نهاية المطاف لن نخجل أيضاً في أوقات فراغنا الكثيرة؛ وكل أوقاتنا فراغ، من تحميل فلسطين مسئولية كل ما نرتكبه وكل ما يحدث وسيحدث لنا.
ولم يكن تهكُّماً حين كتب درويش في «الذاكرة» نفسها «فلسطين المسئولة عن انقراض القمح في الحقول، وعن ازدهار العمران المُكلَّل بالسجون، وتحويل الزراعة إلى صناعة لا تُنتج غير بطون الفئة الجديدة»!
هو ليس زمن فلسطين. إنه زمن موت الذاكرة وإيقاظ وحْش التاريخ!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4625 - الأربعاء 06 مايو 2015م الموافق 17 رجب 1436هـ
اديب عملاق استاذي
وفقك الله
عجيب
مقال جميل