جدير بالعالم العربي أن ينحني خجلاً أمام تصنيف «فريدوم هاوس» للصحافة، فقد جاءت الصحافة العربية كلها دون استثناء، في مرتبة الصحافة غير الحرة وغير المستقلة والخاضعة للرقابة الحكومية والرقابة الذاتية (تونس والكويت ولبنان حرة جزئياً).
لقد ظل العالم العربي يؤجل استحقاقات التغيير والإصلاح السياسي الشامل والجذري والحقيقي، مكتفياً بالإصلاح الشكلي أو الترقيعي أو الالتفافي والمفرغ من المضمون، وينصرف عن مجاراة قيم العصر الكونية في الحوكمة الرشيدة وسيادة القانون والديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان والصحافة الحرة والقضاء المستقل ومؤسسات المجتمع المدني الفاعلة المستقلة، إلى أن اندلعت احتجاجات الربيع العربي ذات المطالب السياسية والاقتصادية، فتجلّى العوار الدستوري والإختلالات السياسية والنقص التشريعي.
وكثيرون يصنفون ثورات الربيع العربي بأنها «ثورات من أجل إعادة توزيع الثروات»، بعد أن بلغ الاستئثار والفوراق الطبقية والجشع والفساد حدّه، وظهر جيلٌ لا يملك شيئاً ولا يحلم بشيء، فوجد العالم العربي نفسه وجهاً لوجه أمام نفس الأزمات والاستحقاقات التي سبق أن غضّ الطرف عنها طويلاً. ثم جاءت الثورات المضادة فأعادت هيمنة الأنظمة على كلّ مفاصل الدولة مجدّداً وبشكل أشد من السابق. كما أعادت حكم العسكر وقوانين الطوارئ والأحكام العرفية فخسر العالم العربي حتى تلك المكتسبات القليلة والبسيطة التي تحقّقت له نسبياً في العقد الماضي، وعادت الدول العربية لتتبوأ الأصفار والرتب المتدنية في النزاهة والشفافية والصحافة والعدالة الاجتماعية وغيرها.
الصحافة البحرينية ليست استثناءً من الصحافة العربية، وقد حظيت هي الأخرى برتبة متدنية جداً، وهذا ديدنها منذ عدة أعوام، وهي اليوم أمام استحقاقات عديدة، وتقرير «فريدوم هاوس» جديرٌ به أن يكون باعثاً على التحرك والتدارك ومعالجة النواقص، إذ يتبيّن من خلاله مدى تأثّر الصحافة بالأزمة السياسية الممتدة منذ أربع سنوات. فها نحن للسنة الثالثة عشرة بلا قانون للصحافة يحظى بالقبول والتوافق سواءً من قبل الجسم الصحافي أو الرأي العام المحلي، أو حتى المعايير والاتفاقات الدولية التي صادقت عليها البحرين فيما يخصّ حرية التعبير وحرية التجمع. فالقانون الصحافي المطبق حالياً شديد الوطأة على حرية الكلمة، ومربوطٌ بقانون العقوبات ويُعاقب الصحافي في الاثنين منهما، وبسببه تعرض البعض من مصورين ومدوّنين ونشطاء سياسيين للسجن والمحاكمات. ثم هل نتحدث عن صحافة حرة ومستقلة دون إنجاز قانون حقّ الحصول على المعلومة المؤجل هو الآخر؟
كذلك فإن الاستحقاقات الصحافية تتمثل أيضاً في توصيات تقرير تقصي الحقائق الذي أوصى بصحافة حرّة وتعددية تسمح للجميع وللمعارضة بالتعبير سواءً في وسائل الإعلام الرسمي أو غير الرسمي.
ولا ننسى أن البحرين ملزَمَةٌ بتوصيات مجلس حقوق الإنسان في جنيف لعدة دورات، والذي طالبها أيضاً بإطلاق سراح جميع معتقلي الرأي في قضايا التعبير عن الرأي، وإلغاء جميع التشريعات التي تجرّم ممارسة هذا الحق وتنفيذ التوصيات الواردة في تقرير تقصي الحقائق، ووضع إطار زمني لتنفيذه، ورفع جميع القيود المفروضة على تنقلات الصحافيين الأجانب والمنظمات الدولية المدافعة عن حقوق الإنسان، والعمل على مواءمة قانوني الصحافة والعقوبات وفقاً للمادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وإلغاء القيود المفروضة على حرية التعبير وضمان الامتثال للمعايير الدولية في هذا الشأن، ومواءمة التشريعات الوطنية المرتبطة بحرية التعبير مع التزامات البحرين الدولية.
إن تراجع حرية الصحافة يشكّل تعطيلاً لسلطة الشعب وللتحوّل الديمقراطي، ويقوّض مبادئ المساءلة والمحاسبة والرقابة، ويوسّع قائمة المسكوت عنه، ويحول دون طرق القضايا الجوهرية والحساسة والمتعلقة بالثروات الوطنية وتوزيع المال وتصاعد الدين العام ومكافحة الفساد وغيرها... فمن دون صحافة حرة لا أمل في التغيير إلى الأفضل.
إقرأ أيضا لـ "عصمت الموسوي"العدد 4623 - الإثنين 04 مايو 2015م الموافق 15 رجب 1436هـ