لأنه لا مقاييس حقيقية يتعامل معها البشر. لا مقاييس ثابتة؛ ستجد في كل ركن من أركان هذا العالم اضطراباً وقلقاً وطرفاً يستهدف طرفاً آخر. كل يحدِّد ويفسِّر ويتعامل مع المقاييس بحسب مصالحه؛ وبحسب أهدافه؛ وبحسب مزاجه أيضاً؛ وبحسب مقاييس القوة التي يمتلكها كي يفرض مقاييسه هو!
وحين نقول: لا مقاييس حقيقية؛ فلأن ما نظنه مقاييس في تعامل البشر مع بعضهم بعضاً، سرعان ما يتم التنصُّل منها، والخروج عليها، والإتيان بما يناقضها. هل نحتاج إلى شواهد في هذا المقام؟
لا مقاييس في السياسة اليوم. لا مقاييس ضابطة في الاقتصاد أيضاً وإلا لم ينم العالم على رفاهية ويصحو على انهيار البورصات؛ ومعها العملات وانهيار أسعار النفط، وابتزاز دول لدول أخرى؛ وما يتبع ذلك من انهيار علاقات وأُسَر؛ وتضاعف فقر الفقراء بالدرجة الأولى.
كما أنه لا مقاييس متبعة في الأخلاق؛ وإلا لم نرَ حروباً تشتعل بجاهلية تنافس جاهلية من أشعلوا «داحس والغبراء»؛ ولما رأينا كل هذا التفكُّك في علاقات الجنس البشري وعلاقاته مع من وما حوله أيضاً، وأولها الأرض؛ وشهوة الإنسان في تحويلها إلى مكبٍّ للنفايات السامة وغير السامة.
فقط هي المقاييس التي وجدت في الطبيعة، تلك التي لا نملك طاقة لتغييرها، ولو ملكناها لما تردَّدنا لحظة في ذلك، كواحد من الإجراءات الحمقاء التي يتخذها الإنسان لتدمير علاقاته وما حوله، وتدمير الكوكب الذي يحتضنه، وبالتالي تدمير نفسه.
وبالحديث عن المقاييس؛ ربما سيجد المتابعون لبعض أعمال حائزة جائزة نوبل للآداب، الأميركية توني موريسون (ضمير أميركا) كما يُطلقون عليها، شيئاً من الخروج على تلك المقاييس المصطنعة؛ في محاولة منها لـ «إعادة الرشْد» إلى طبيعته. طبيعته التي لم يمسسها سوء التحريف والتزييف. لا مساحة لديها لارتكاب حماقات بمستوى المجاملة في مسائل وجودية ومصيرية. لا وقت لديها للمساهمة في العبث بما حدث وما يحدث.
يحتاج الواحد منا إلى العودة بين فترة وأخرى، إلى لقاءاتها النشطة التي تُجريها صحف عالمية معها، وآخر تلك اللقاءات ما أجرته هيرميون هوبي، من صحيفة «الغارديان» البريطانية، يوم السبت (25 أبريل/ نيسان 2015)، تطرّقت فيه إلى مسائل ومفاهيم وقضايا عدَّة، وإن غلب عليها تناول واقع الأميركيين من أصل إفريقي؛ لكن أبرز ما يُلفت في اللقاء، تناولها لنسبية الأشياء، ومن بينها الجَمَال، من دون أن تُدخل القارئ في متاهات التوصيف والتنظير، والذي تمتلكه لو أرادت؛ ولكنها تعرف جيداً أن أقرب البشر إلى البشر، أولئك الذين يأتون ويذهبون إلى الناس بعفويتهم وبساطتهم، وتناولهم للقضايا والأمور بالبساطة التي يمكن لأي كائن بشري أن يقدّم نفسه إلى العالم من حوله من دون إقرارات أو إضافات أو هروب من خلال تصنُّع يمكن بسهولةٍ اكتشافه وفضحه.
نقف على جانب من نسْف تلك المقاييس الخادعة التي تم توظيفها بخبْث بالغ. لا تعترف موريسون بها، ولا تضع لها أدنى قيمة ووزن. حدث ذلك في البسيط من تلك المقاييس من حيث قدرتها على التحكُّم في مسارات ومصير هذا الكوكب ورعاياه، من حيث الأثر الذي يمكن أن تحسمه بالنسبية المُهدّدة أيضاً في نهاية المطاف. نقف على تناولها لمسألة الجَمَال، قالت: «يمكنه أن يزعزع استقرارك إذا كان هذا كل ما لديك، وإذا كان هذا كل ما يهمك، ومنه تأتي نجاحاتك. هنالك شخص ثلاثي الأبعاد في مكان ما خارج الملابس والماكياج والعري».
وفي القضايا التي ظلَّت مدافعة شرسة عنها لم تدْع للمجاملة، ولم تمارسها. إنه الموضوع والملف الذي ظل يشغلها؛ وعملت عليه بعناد ملفت: حق مواطنيها (الأميركيين من أصل إفريقي)، في الحياة بعيداً عن القيمة في اللون والدِّين. تتجاوز التاريخ/ العار في التعاطي مع قضية مواطنيها، ذهاباً إلى استشهادات خارج محيطها مادامت ستوصل رسالة: نحن هنا وسنظل؟ قالت في الحوار نفسه مع هوبي: «معظم الكتاب يدَّعون أنهم يمقتون التسميات»، ولكن موريسون رحبت دائماً بمصطلح «الكاتب الأسود». «أنا أكتب للسُود»، كما تقول «بالطريقة نفسها التي لم يكن تولستوي يكتب لي، وأنا فتاة ملونة تبلغ من العمر 14 عاماً من لورين بولاية أوهايو. وليس عليَّ الاعتذار أو أن أعتبر نفسي مُقيَّدة لأنني لا (أكتب عن الناس البِيض)، وهذا غير صحيح على الإطلاق، وهناك الكثير من الناس البِيض في كتبي. النقطة المهمة، هي ألاَّ وجود لناقد أبيض يثقل كاهلك وتتوافق معه». وتشير في حديثها إلى الكاتب جيمس بالدوين «هنالك بعض من الرجل الأبيض داخل أعماق كل واحد منا».
وعلينا أن نقف على عادات وسلوك تعيشه ويتناسب مع تجاوزها ثمانية عقود، دنُوَّاً من العقد التاسع، في ما تريد وما لا تريد. تحدِّد مقاييسها هنا تبعاً لثقل الزمن؛ من دون أن تمس تلك النسبية حق العالم من حولها؛ مادامت حتى وهي في مزاجها لم ترتكب مجزرة أو فضيحة.
وبحسب هيرميون هوبي، في «الغارديان» أنه «قبل بضعة أشهر، عندما أجرى صديقها الكاتب والناقد هيلتون آلس مقابلة مع موريسون، وقالت له إنها الآن في الثمانينيات من عمرها، وهناك ثلاثة أشياء عليها أن تقولها. الأول هو: «لا». والآخر: «اخرس» والثالث: «اخرج». وبعبارة أخرى، فقد نالت حقها في عدم القيام بما لا تريد القيام به. ويشمل ذلك كتابة مذكراتها، على رغم أنها وقعت عقداً مع اثنتين من دور النشر، وكانت (راندوم هاوس) إحداها».
خروج مثل ذاك على مقاييس مصطنعة لا يخلُّ بالحياة وتوازنها، ولا يسيء إليها أو إلى كائناتها، بقدر ما هو يحمل تثبيت موقف، وتصحيح مسار، والخروج على ما يُراد له أن يكون السائد والغالب والمُوجِّه لحركة الحياة. الحياة التي لا مكان لها للمقاييس الأساسية التي تحفظ ذلك التوازن، وتعيد الاعتبار للإنسان الذي بدأ ينقرض اعتباره على هذا الكوكب!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4622 - الأحد 03 مايو 2015م الموافق 14 رجب 1436هـ
الماده
اصبحنا في زمن السمك الكبير ياكل السمك الصغير والقوي يدوس على الضعيف ويستعبده واذا ما طلب حقه قالوا له لا تتمرد ولا تطلب اكثر من حقك كان هم الاسياد والباقي عبيد