لم يدمِّر الزلزال الذي ضرب النيبال في الثامن والعشرين من أبريل/ نيسان الماضي، البنية التحتية المعهودة من جسور وشوارع وأبنية حكومية ومنازل فحسب؛ بل طال دماره أهم مواقع التراث الثقافي والتاريخي للبلاد. برج دارهارا الأثري الذي تم إنشاؤه في العام 1832، أحد ملامح ذلك التراث، وهو أحد المواقع المُدرجة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي. يمكن الحديث هنا عن مجزرة طالت التراث التاريخي للنيبال بفعل الطبيعة هذه المرة.
في العام 1834، تعرَّضت مملكة النيبال وقتها لزلزال عمل عمله في إصابة البرج بتصدُّعات، لتكون المملكة على موعد مع زلزال آخر بعد قرن من الزمان؛ إذ في العام 1934، قضى على برج «بيسمين» الأول، ليقضي زلزال العام 2015 على البرج الثاني.
من دون شك، أن الحجر ليس أغلى من البشر؛ لكن في الحجر ذاك ذاكرة بشر وتاريخهم ودليل أنهم كانوا هنا. الخسارة كبيرة ليست للنيبال وحدها؛ بل للإنسانية من أقصاها إلى أقصاها. الصحافيتان، إلين باري ونِدا نجَّار، نشرتا تقريراً في صحيفة «نيويورك تايمز» في نسختها الدولية، يوم الثلثاء (28 أبريل 2015)، تنقله «الوسط»، متضمناً هوامش وإحالات لا غنى عنها.
منحوتة القرن السابع عشر
في ميدان باسانتابور دوربار كاتماندو يوم الثلثاء، انزلق عمود خشبي ثقيل منهاراً، وذلك هو ما تبقى من معبد ماجو ديغا.
أعضاء فريق البحث والإنقاذ من المتطوِّعين؛ كانوا يتسلَّقون صعوداً وهبوطاً نحو قاعدة المعبد، وذلك باستخدام عارضة كسلَّم نقَّال، وأحياناً يُرسلون وابلاً من الطوب تحطَّم على القاعدة. كل ذلك سينتهي في نهاية المطاف إلى كومة من الأخشاب، في الميدان الذي اجتازه الناس، وهم عرضة للأمطار.
إذا كنت قد عملت كخبير في دار للمزاد، ستلاحظ بعض الأمور حول العارضة: كانت منحوتة بشكل معقد وعليها صورة اثنين من الآلهة، ربما يعود تاريخها إلى القرن السابع عشر. إنها قطعة من النوع الذي يمكن أن يُباع بعدَّة آلاف من الدولارات في الغرب.
عبر الريف النيبالي، رحلات يائسة إلى المنازل المدمَّرة بعد زلزال الثامن والعشرين من أبريل 2015، والإحباط يتنامى في النيبال بتقاطر فرق الإغاثة. تم قطع قرى النيبال بفعل الزلزال، في انتظار المساعدة، فيما بلغت أعداد القتلى 4000 شخص. وعمدت كل من شركتي «غوغل» و «فيسبوك» إلى تقديم مساعدات للناجين، وتكثَّفت الاتصالات في ثلاثة أيام منذ بلغت قوَّة الزلزال 7.8 درجات على مقياس ريختر، وتصاعد عدد القتلى بسرعة هائلة ليصل إلى أكثر من 5000، وذلك هو ما يحظى بمعظم الاهتمامات الأخرى من صحة وسلامة وضعت جانباً.
الأمل في العثور على ناجين، بدأ في التراجع، وعشرات الآلاف من الناس يعيشون في الخيام، على رغم الأمطار الغزيرة. واحتياطيات المياه النظيفة في طريقها إلى النفاد.
الزلزال الذي ضرب النيبال في الخامس والعشرين من أبريل سوَّى أقسام المركز التاريخي لمدينة كاتماندو بالأرض؛ حيث صُنعت العديد من الهياكل من الطوب.
لا حراسة... و «اليونسكو» عاجزة
في الوقت نفسه، وفي كثير من الأماكن، تم ترك بقايا عدد من المعابد والقصور التي تعود إلى قرون، من دون حراسة، وتضاءلت في نهاية المطاف فرص إعادة بناء واحدة من أكبر المجموعات في العالم من مواقع التراث الثقافي. المشاة، ربما لقيمة عاطفية، يسيرون بعيداً الطوب الذي يعود إلى القرن التاسع عشر.
يوم الاثنين، طُلب من مسئول محلي في دائرة نيبال للآثار أن يقدِّم تقريراً بعد إحباط محاولة سرقة جرَس برونزي من فوق سطح معبد في العاصمة، وكانت السلطات قد اتخذت بعض الخطوات الأولية لحمايتها من النهب. وقد تمَّت طباعة تحذير في صحيفة محلية يوم الثلثاء يشير إلى معاقبة أي شخص يستولي على قطع أثرية.
ولكن، كان هناك أيضاً شعور بالعجز إزاء حجم الكارثة التي حلَّت بوادي كاتماندو، المكان المُعتمد بدقة من قبل «اليونسكو» على قائمة حماية التراث العالمي في العام 1979.
وبحسب تصريح رئيس مكتب اليونسكو في العاصمة النيبالية كاتماندو، كريستيان مانهارت «لا أحد يستطيع أن يقوم بحماية الآثار تلك، لا الحكومة ولا (اليونسكو)، لذلك علينا أن نعمل معاً». وأضاف «هناك آلاف المواقع الأثرية، ونحن لا يمكننا أن نضع شرطياً أو الجيش في كل موقع من تلك المواقع على مدار الساعة. فلأولئك مهمات وأغراض أخرى؛ لذا من المستحيل أن يحدث ذلك بالصورة التي يمكنك تخيُّلها».
فقط... هديل الحَمَام
إلى ذلك، قالت مسئولة كبيرة في منظمة اليونسكو، إيرينا بوكوفا في مقابلة يوم الاثنين، إنها لا تعلم شيئاً عن أي كارثة طبيعية في العصر الحديث عملت عملها في تضرُّر كبير للتراث الثقافي.
حزن عميق وضجر يُحيط بأحياء الوادي الأكثر شهرة هذا الأسبوع. بعد يومين من وقوع الزلزال، وفي شارع ضيق في «بهاكتابور»، وهي مدينة قديمة تم بناؤها من الطوب الوردي، وتقع على بعد عدَّة أميال من كاتماندو، تم اخلاؤها تماماً من قبل السكَّان؛ ما يجعل الزائر لا يسمع أي صوت سوى هديل الحَمَام.
لمحة سريعة تُوضح لماذا: تعرَّجت الشقوق في واجهات المنازل المبنيَّة من الطوب. هياكل طويلة وأنيقة مع نوافذ منحوتة، بعض منها انهار يوم السبت، وتم سحق المواطنين داخلها. وخلال أسبوع الزلزال، قام بعض السكَّان بالاستيلاء على أكياس الرز وغيرها من لوازم المعيشة؛ ولكن يبقى خوفهم قوياً لدرجة أنهم لن يتوقفوا عن الكلام.
يجلس كيشور راجبهانداري على الرصيف في شارع يالاشين، دون عجَلة من أمره لقصد أي مكان، مُحدقاً في المنزل الذي انتمت له أسْرته لثلاثة أجيال.
قال: «هذا هو بيتي. انتهى تماماً. من الخارج يبدو على ما يرام، ولكن من الداخل، هناك تشقُّقات في كل زاوية. إذا كان الزلزال القادم بمقياس 6.5 درجات فسينتهي أمره».
كاتماندو وتقاطع طريقين
بُنيت مدينة كاتماندو عند تقاطع طريقين تجاريين يربطان الصين والهند، ويعكس تراثها المعماري التأثيرات المتداخلة: هياكل نذرية بوذية مُصغَّرة من القرن السابع الميلادي، زُيِّنت بفنون من النحاس والمنحوتات الخشبية. أما طبقات المعابد فمصنوعة من الطوب الأحمر؛ فيما بُنيت الأديرة والمجمَّعات الدينية والقصور والساحات بمجموعة من بلاط الأسطح المحلي.
الدمار كان هائلاً، ويمكن الوقوف على ذلك من خلال تصريحات مسئولي منظمة اليونسكو؛ إذ قالت «المنظمة»، إن مجمَّعات المعابد في كاتماندو: بهاكتابور وباتان قد دُمِّرتْ تقريباً. وفي ميدان باسانتبور دوربار يوم الثلثاء، كانت هنالك فرق من المتطوِّعين تعمل على تجريف حطام أُسُسِ اثنين من المعابد التي انهارت يوم السبت. وصلت سيارات الإسعاف لإزالة جثتين عثر عليهما المتطوِّعون. ووقف عدد قليل من ضبَّاط الشرطة في الساحة، إلا أنهم لم يبذلوا أي محاولة للإشراف على تلك الجهود.
وقالت كايتلين بول (22 عاماً) وهي سائحة من كندا قضت أربع ساعات في المساعدة على رفع أنقاض ماجو ديغا: «لا يوجد تنظيم على الإطلاق».
وكانت في عجلة من أمرها لإزالة الأنقاض، وعارضات منحوتة، ودعامات انتهت في أكوام من الخشب الذي تحوَّل إلى حطام وبقايا، على رغم أن بعض المنحوتات الجميلة؛ وخاصة واحدة من القطع الوردية التي تُظهر نساء يرقصن فرحاً في وضع أكروباتي أسفل إلهين يبتسمان. كل ذلك تحوَّل إلى أنقاض.
وقال مفتش الشرطة بمحطة في الميدان، أنيل أدهيكاري، إن الاعتقالات الوحيدة التي تمَّت بسبب النهب في الميدان كانت لثمانية من المراهقين، خطَّطوا لبيع المنحوتات الخشبية في سوق التحف.
وخارج مركز للشرطة، وفي أكياس بيضاء تُستخدم لبيع الرز، جمع أدهيكاري نحو عشرة تماثيل لآلهة وآلهات.
نهْبٌ وكنوز تحت الأنقاض
وقال مسئولون، إن قضية النهب قد أصبحت محط اهتمام، وأكثر إلحاحاً في الأيام القليلة الماضية، ولكن يبدو أن الوضع بحاجة إلى اتفاق مع وكالة أخرى تكون مسئولة عن تأمين المواقع الأثرية.
وقال أدهيكاري، إن مركز شرطته أبلغ مسئولين في وزارة الآثار بالحكومة، عن كنوز تحت الأنقاض، لكن لم يبادر أحد منهم بالحضور.
من جانبه، عضو لجنة التخطيط الوطنية في الحكومة، شاندرا ماني أدهيكاري، إنه أصدر «تعليمات إلى الدائرة لوضع خطة عمل، واتخاذ الإجراءات اللازمة للحفاظ على المواقع تلك بسرعة».
إلى ذلك، قال مدير عام دائرة الآثار بيش نارايان داهال، إنه زار حيّ الشرطة وضابط المنطقة و «طلبت منه تقديم المزيد والمزيد من الجهود الأمنية في تلك المنطقة».
وأضاف، أنه أعطى أوامر للتحذير من عمليات النهب، والذي ستتم طباعته وبثه عبر وسائل الإعلام، وطلب من الموظفين زيارة المواقع التراثية، وحجز القطع الأثرية في متحف لحفظها. وقال: «أنا قلق للغاية. كيف سننقذ تراثنا»؟
ولكن، كل ذلك كان مصدر قلق ثانوي يوم الثلثاء في ميدان باسانتابور دوربار؛ حيث كان المتطوعون عازمين على إزالة الجثث من تحت الأنقاض. بعد الظهر بقليل، وجدوا واحدة، لرجل نيبالي عُثر عليه ملقى على صدره، وسُحق على ما يبدو عندما حاول الهروب نزولاً من خلال سُلَّم المعبد.
توماس بيل، وهو صحافي ومؤلف كتاب «كاتماندو»، كتاب العام 2014 عن المدينة، كان يُراقب المتطوِّعين وهم يقلِّبون الحُزَم المنحوتة، والتي حطَّت فوق بعضها بعضاً مخلِّفة سحابة من الغبار. وقال: «الحُزَمُ يجب تصنيفها على الفور، وتخزينها، وحمايتها من أي ضرر آخر».
وأضاف «الناس في النيبال لا تضع بالضرورة قدْراً كبيراً من القيمة لقطعة من الخشب لمجرد أنها قديمة؛ ولكن لو كنت تريد ترميم المعبد، فأنت تريد استعادته».
دور المنظمات الإنسانية
في السياق نفسه، سارعت منظمات دولية عديدة إلى تقديم المساعدات الإنسانية العاجلة؛ على رغم شحّ الإمكانات والموارد، ومن بين تلك المنظمات «آباري»، التي وجَّهت نداء لمنتسبيها والأطراف المعنية، في عدد من دول العالم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، في بيان لها، أشارت فيه إلى الزلزال المدمِّر الذي ضرب النيبال و «أدَّى إلى انهيار تلال بأكملها مجتاحة القرى الواقعة في أسفلها، ومخلِّفةً آلاف القتلى والمصابين والمفقودين».
وأشار بيان المنظمة إلى أن «البلاد تُعاني اليوم من نقص في إمدادات المياه والغذاء؛ فضلاً عن عدم وجود ملاجئ تأوي الناجين من هذه الكارثة».
من جانبها، قالت مؤسسة «جيوهازارد» العالمية ومقرها ولاية كاليفورنيا الأميركية، وتُعنى بمساعدة المناطق الفقيرة للتغلُّب على آثار الزلازل والبراكين، إن المنطقة تتعرَّض لزلزال مدمر كل 75 عاماً.
ونشرت المؤسسة قبل أشهر تحذيراً قالت فيه: «مع نمو سكاني سنوي قدره 6.5 في المئة، وكونها واحدة من أكثر مناطق العالم كثافة بالسكان، فإن 1.5 مليون نسمة الذين يعيشون في وادي كاتماندو يواجهون خطراً حقيقياً ومتزايداً من حدوث هزة أرضية».
يُذكر، أن مملكة النيبال أعلنت النظام الجمهوري في 28 مايو/ أيار 2008 بعد 240 عاماً من الملكية.
وتجاور النيبال مقاطعة التبت التابعة إلى الصين من الشمال، وتحدُّها الهند من الشرق والجنوب والغرب، ويمتد طول البلاد من الغرب إلى الشرق، وعرضها بين الشمال والجنوب، وتبلغ مساحتها 141 ألف كيلومتر مربع، وعدد سكَّانها 28 مليون نسمة؛ بحسب تقدير العام 1988، وأهم مدنها: بوكهرا، بهيرهوا، بتول، بيرات نغر، بير غنج، دهران، جنكفور دهام. وتضم النيبال أعلى قمَّة جبلية في العالم وهي قمة إفرست بارتفاع 8848 متراً.
يُشار إلى أن منظمة اليونسكو أدرجت «وادي كاتماندو» على قائمة التراث العالمي بآثاره ومعابده؛ إذ تم إدراج كل من ساحات دوربار في هانومان دوكا، وباتن وباكتابور، والمعابد البوذية في سوايامبو، والمعابد الهندوسية في باشوباتي وشجو نارايان.
كما يُشار إلى أنه حتى يوم الجمعة (الأول من مايو/ أيار 2015)، ارتفعت حصيلة الزلزال الذي ضرب النيبال إلى 6204 قتلى و13932 جريحاً على الأقل، بحسب ما جاء في آخر بيان رسمي للسلطات.
وبحسب الأمم المتحدة، فإن ثمانية ملايين من أصل 28 مليون نيبالي، بينهم 1.7 مليون طفل، قد تأثَّروا بهذا الزلزال الذي بلغت قوته 7.9 درجات، وهو الأعنف منذ أكثر من 80 عاماً. وأطلقت الأمم المتحدة نداء لجمع 415 مليون دولار من التبرُّعات.
وأصبح التخلُّص من مئات الجثث التي مازال يجري العثور عليها مشكلة للمسئولين الذين أمروا بإحراق الجثث فور استخراجها من الأنقاض.
وقال مسئول في بعثة هندية شبه عسكرية تعمل بالتنسيق مع القوات النيبالية: «المشارح مملوءة عن آخرها ولا يمكنها استيعاب المزيد من الجثث... تلقينا تعليمات بحرق الجثث فور استخراجها».
من جانبه، قال وزير المالية رام شاران ماهات، إن نيبال ستحتاج إلى ملياري دولار على الأقل لإعادة بناء المساكن والمستشفيات والأبنية الحكومية والمباني التاريخية. وناشد المانحين الدوليين تقديم المساعدة لبلاده.
العدد 4622 - الأحد 03 مايو 2015م الموافق 14 رجب 1436هـ