العدد 4620 - الجمعة 01 مايو 2015م الموافق 12 رجب 1436هـ

المآتم بين الماضي والحاضر المعاصر

كربلاء هي ملحمة ألهمت الشعراء والأدباء وكُتّاب السير، وأصبحت منارة امتدّ إشعاعها خلال القرون في مجالس كُرِست لإبراز مظلومية الحسين وأهل بيته وأصحابه الذين سقطوا صرعى في تلك المعركة التي لم تكن متكافئة. أثبتت فيها فئة صغيرة مؤمنة أمام جيش جرار من الشجاعة والإباء ما قلب الموازين إلى جانب تلك الفئة التي ضحت في سبيل مبادئها. كانت هذه المأساة التي حلّت بالحسين سبط الرسول محمد (ص) وأهل بيته من قتل وسبي من الحوادث التي أثرت تأثيراً عاطفياً في وجدان المسلمين وهزّت مشاعرهم.

لعبت زينب دوراً كبيراً في فكرة تأسيس المآتم، وذلك لما شهدته هي وابن أخيها الإمام علي بن الحسين (زين العابدين) من أحداث شنيعة ومأساوية في معركة الطف، وما تجملت به من التحمل والصبر في الأسر بعد ذلك. فكانت الكوفة هي أول مدينة دخلها موكب الأسرى وهم في طريقهم إلى الشام حيث إن دمشق آنذاك كانت مركز الخلافة الأموية وفي الكوفة بدأ الفصل الأول في تأسيس المأتم الحسيني. هنا في الكوفة صنعت زينب والأسرى دراما مأساوية انضم إليها أهل الكوفة على رغم عدم اشتراكهم في المعركة لمؤازرة الحسين والدفاع عنه، غير أنهم أدركوا في نهاية الأمر عمق المأساة التي تعرض إليها ابن بنت نبيهم وآل بيته.

أول من انبرى في كتابة هذه الحادثة الأليمة بالتفاصيل الدقيقة هو (أبومخنف بن لوط) سنة 61 هـ (كتاب مقتل الحسين، أبومخنف بن لوط)، وحدى حدوه الشعراء الذين صوروا تلك الحادثة في قصائد صورت فظاعة الجرم الشنيع الذي ارتكب بحق آل بيت الرسول. وكان للشعر المرسل الوصفي أهمية في التعريف عن القضية التي استولدت شعور بالثأر فجاءت تأثيرات تلك المعركة في الثورات التي وقعت بعد سنوات قليلة، في صور ثورات احتجاجية كثورة المختار الثقفي وسليمان بن صرد الخزاعي، وعدد من الثورات في الكوفة كثورة زيد بن علي والدعوة العباسية، وبقيت عنواناً لكل ثائر على السلطة.

تبلورت فكرة إحياء مراسيم معركة الطف وتطورت بمباركة من الأئمة المعصومين. حيث كان الإمام يجلس مع أهله ومحبيه في الذكرى السنوية لاستشهاد الإمام الحسين لقراءة المرثيات والقصائد التي تصور ما حلّ بأحفاد وحفيدات النبي في كربلاء، أو قد تكون القراءة على قبر الإمام الحسين وأخيه العباس خلال زيارة المشاهد المقدسة في كربلاء.

ثم نضجت الفكرة صعوداً وأخذت موقفها الرسمي داخل الحكومات الشيعية مثل بني بوئيه في بغداد، الحمدانيين في حلب، الفاطميين في المغرب ومصر والصوفيين في إيران. وعلى مر السنين تطورت تلك الثقافة الأصيلة الغنية بالبلاغة والأدب، المتميزة بالنبرة الحزينة، وعرفت باسم «أدب الطف». حيث تتوازن أساليبها بين الشعر والنثر باللغة العربية الفصحى والعامية على حد سواء، فضلاً عن لغات أخرى.

بدأ هذا التراث الثري من خلال فكر المتعلمين والشعراء من أهل البيت ومحبيهم أمثال دعبل بن علي الخزاعي، الكميت، أبو العلاء المعري، أبوفراس الحمداني، صعصعة بن صوحان، سليمان بن صرد الخزاعي، الفرزدق، سفيان بن مصعب العبدي، ابن الرومي، البحتري، المتنبي، سيف الدولة الحمداني، الشريف الرضي وأبو الأسود الدوؤلي. أما في البحرين فنجد الشيخ حسن الدمستاني، ملا عطية الجمري، الشيخ جعفر الخطي، الشيخ سليمان الماحوزي، ومئات الشعراء والرواديد العرب والأجانب (من إيران وشبه القارة الهندية).

ثم تأسس أول هيكل مستقل للمآتم في القاهرة أيام المعز لدين الله الفاطمي. فقد كانت القاهرة معروفة في عهد الفاطميين بتعليق السواد في الأسواق ووضع الرايات السود وخروج المواكب الحسينية في اليوم العاشر من شهر محرم من كل عام، كشعار للحزن والتعاطف مع آل الرسول.

انتشر المأتم بعد ذلك على نطاق أوسع كوحدة مستقلة بذاته، وكان دوره هو إحياء ذكرى معركة الطف وتوضيح منهجه أكثر في العصر الحديث. وكان على الحركة الحسينية ألا تكون مقيدة في ذكرى يوم العاشر من محرم فقط، لذا امتدت لتشمل شهري محرم وصفر، بالإضافة إلى مناسبة ذكرى وفاة وميلاد النبي وأهل بيته (ع).

ومن هنا جاء تخصص الرجال والنساء في هذا المجال فمنهم من كتب القصائد ودون القصص ومنهم من تعلم أسلوب الخطابة الحسينية والرثاء والنعي، ومنهم من كان منشداً للطميات وآخرون من الرواة وقراء الحديث. تختلف المآتم الرجالية عن مآتم النساء في أسلوب القراءة، كما تختلف الأساليب من بلد لآخر بحسب الثقافة العامة واللهجات الدارجة. فكان للبحرين أسلوبها المتميز في القراءة الحسينية وأطوار تعرف في المحافل الحسينية خارج البحرين بالطور البحراني، والمحبب لدى العراقيين. ثم يأتي دور النساء في المجتمع مكملاً ومؤازراً لدور السيدة زينب بنت الحسين في نشر تراث أهل البيت وتجديد ذكرى مظلومية الإمام الحسين وأهل بيته لماله من بركات ومنزلة عظيمة عند الله.

تتميز القارئة الحسينية (الملاية) بصوت شجي ومؤثر أو كما يقال «فجيع» يُبكي الحاضرات في ذلك المأتم، ويؤجج ذكرى الحادثة ويقوي التحام المستمعات بالمصاب الأليم. كما لديها ملكة خطابية تمكنها من الوقوف وإحياء المراسيم بصورة درامية مؤثرة. تتسم أيضاً بحافظة قوية ومقدرة على قراءة القرآن الكريم.

يذكر أن القارئة الحسينية تصل إلى هذه المرتبة بإيمانها وروحانيتها وتمتعها بصفات تؤهلها إلى هذه الدرجة من السمو الروحي.

جدتي لأمي شيخة بنت محمد حسين العريض هي إحدى الملايات المرموقات، والدها محمد حسين العريض وأمها خديجة بنت الشيخ نصر بن الشيخ علي العصفور والذي كان المسئول المالي لدى حاكم البحرين الشيخ علي بن خليفة آل خليفة عام 1868م.

وفقاً لرغبة والدتها، بدأت شيخة مهنتها كقارئة في المجالس الحسينية ولعبت دوراً كبيراً في هذا المجال. كانت تمتلك صوتاً قوياً (جهورياً)، شجياً جذب العديد من جمهور المستمعة إلى القراءة الحسينية وخصوصاً نساء العجم في فريق المخارقه مثل بيت كازروني، بيت بوشهري، علي خادم، بيت ديواني وبيت علي كاظم بوشهري. كانوا يرتادون المأتم للاستماع لها والبكاء على الإمام وآل بيته، ورغم أنه لم يكن من المستحسن أن يستمع الرجال لصوت المرأة إلا أن بعض الرجال العجم كانوا يجلسون خارج المأتم ويبكون على نعي جدتي شيخة (أم عبدعلي) كما أخبرتني أمي.

هي إنسانية بطبعها غير عنصرية، متسامحة مع الأديان والمذاهب الأخرى. يحترمها الجميع ويثق بمكانتها الروحانية والدينية المتعمقة. يقصدها النساء للتبرك وعمل النذور لهن في الأضرحة المتواجدة خارج المنامة (للتنويه عن القراءة على الأضرحة، أن جدها لوالدها الكبير الشيخ علي بن ملا محمد العريض كان يقرأ على الأضرحة وذكر هذا في كتاب أنوار البدريين، المسعودي) كمسجد النبيه صالح ومسجد أمير زيد. كنّ يجلبن بناتهن عندما يقترب موعد ولادتهن فتقرأ عليهن وتربط بطن الفتاة بملفعها لتخفيف آلام الولادة. كانت تقرأ في العديد من المآتم في فريق المخارقة، منهم مأتم بيت طيبو، مأتم بيت النشمي ومأتم بيت السادة الموجود في الممر المعاكس لمأتم مدن حالياً.

كانت شيخة تقرأ من كتب طيبة بنت حجي محسن وهي صديقة لوالدتها خديجة. فقد كانت طيبة تؤلف الشعر والمرثيات الحسينية وكما ذكرت لي أمي فإنها كانت تكتب على الجدران والأرضيات بالفحم على ضوء القمر، عندما يأتيها الإيحاء الشعري وتتميز كتابتها بأسلوبها المؤثر والمختلف عن العديد من الكتب المستخدمة في المآتم الأخرى. بسبب القراءة والكتابة في الأضواء الخافتة فقدت بنت حجي محسن بصرها وكانت شيخة تساعدها في عملها. لم ترزق طيبة الذرية وقضت طوال حياتها خادمة للحسين وقبل وفاتها قررت أن تورث شيخة الكتب. أعلنت ذلك أمام صديقاتها، ولم تكن شيخة على علم بما يجري. اقترحت إحدى النساء أن يُكتب عقد رسمي يفيد بأن يكون لشيخة الحق في الكتب في حالة وفاة بنت الحجي محسن. ذهبت النساء الثلاث وهم شرف بنت علوي، أم منصور الباش، ومعصومة بيت العليوات إلى الشيخ باقر العصفور لإعلامه بشأن الكتب. كتب الشيخ العقد وكانت زوجته غنية هي الشاهدة الرابعة كما هو الحال في الإسلام امرأتين مقابل رجل واحد، وفقاً لذلك كتب الشيخ العقد وصدق عليه في المحكمة.

ورثت شيخة الكتب من بنت الحجي محسن واستمرت في مسيرتها إلى عام 1972م عندما أصبحت طريحة الفراش لكسر في حوضها وفقدانها البصر. ظلت على تلك الحالة لمدة عشر سنوات حتى وافتها المنية عام 1982 عن عمر يناهز 86 عاماً. علقت والدتي على أمها حيث قالت «عندما أذهب إلى البيبي (كما كان يطلق عليها) أسألها إذا كانت متضايقة من النوم، تبتسم البيبي وتقول: لا مهدية، النبي محمد (ص) معي، الزهراء (ع) معي. فهما يؤنساني وأنا سعيدة بوجودهما، لا يمكن لي أبداً أن أشعر بالملل» لم تشكُ من فقدان البصر أو عدم قدرتها على الحركة. كانت هادئة المزاج مسالمة وراضية بقضاء الله وقدره، ما يعكس إيمانها العميق بالله ورسوله وأهل بيته. بعد وفاتها، أعطت الكتب الموروثة لابنتها مهدية التي واصلت سيرة والدتها.

لقد افتقدنا في زمننا هذا ذلك العنصر الفريد من النساء المؤمنات الصابرات اللاتي كان دأبهن الوحيد هو مناجاة الله ورسوله، أمثال: فاطمة بنت سلمان المؤذن، خيرية أم محمد جواد، خديجة النوخذة، شرف بنت سيد ناصر المقابي، خديجة بنت شيخ نصر العصفور وكثيرات. فقد كانت حياتهن مثال الصدق والأمانة والطهر والعفة. تغير كل شيء حتى المأتم، فقد أصبح مكاناً يجتمع فيه النساء لا للبكاء والاتعاظ كما في السابق، أدخلت الماديات والمحسوبية وزخارف الدنيا إلى أماكن العبادة والدعاء، فكما تغيرت نفوس البشر، ذهبت تلك القدسية المعهودة في تلك المجالس التي واكبت جداتنا في الماضي. رحم الله أسماء لمعت وأضاءت، بكت وأبكت ورحلت إلى خالقها وهي شعاع من نور.

العدد 4620 - الجمعة 01 مايو 2015م الموافق 12 رجب 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً