العدد 4620 - الجمعة 01 مايو 2015م الموافق 12 رجب 1436هـ

الرويس ومقابة: تكامل النسيجين الاجتماعي والجغرافي

في حلقات سابقة تحدثنا عن مفهوم القرية في العصور الوسطى (ما بين القرنين الثاني عشر والسادس عشر الميلاديين)، وذكرنا عدداً من الدراسات المتعلقة بها، وتشير تلك الدراسات أن تلك القرى كانت صغيرة، وهي الصورة التي نتوقعها للقرى في البحرين في تلك الحقبة. لذلك، نلاحظ أنه في نهاية القرن التاسع عشر كانت تُذكر أسماء العديد من القرى في منطقة واحدة معينة في البحرين، إلا أننا نلاحظ اختفاء العديد من تلك المسميات في منتصف القرن العشرين. إن اختفاء مسميات هذه القرى مع بقاء المنطقة مأهولة بالسكان يرجح حدوث اندماج لتلك القرى تحت مسمى واحد، وليس بالضرورة هجرة سكان إحدى القرى. وقد سبق أن ذكرنا أمثلة على ذلك، كالقرى التي كانت في منطقة كرانة وما حولها والتي اختفت مسمياتها حالياً.

قريتا الرويس ومقابة تمثل مثالاً آخر لمثل هذا الاندماج؛ حيث إن القريتين كانتا متجاورتين وكانت هناك علاقات اجتماعية مشتركة بينهما. إن اختفاء مسمى الرويس وسيادة اسم مقابة على المنطقة التي كانت تشمل القريتين يرجح حدوث اندماج بين القريتين. أما سيادة اسم مقابة على المنطقة فيشير، ربما، لزيادة أهمية قرية مقابة وقوة رجالاتها، مقارنة بالرويس، فأصبحت ذات سيادة اسمية على المنطقة.

الرويس ومقابة: الحدود القديمة

تشير الروايات السردية لعدد من كبار السن من قرية مقابة إلى أن قرية مقابة القديمة كانت تقع في جنوب قرية باربار وتمتد جنوباً لتشمل الجزء الشمالي من قرية مقابة الحالية. وإن صحّت هذه الرواية، فإن الآثار التي تم العثور عليها في جنوب باربار هي جزء من بقايا قرية مقابة القديمة. ويشير تقرير البعثة الفرنسية عن هذا الموقع الأثري، أن هذه القرية، التي بدأ الاستيطان فيها في القرن الثاني عشر الميلادي، قد بنيت على أرض منخفضة وبطريقة مميزة جداً؛ حيث بنيت على الأرض دون أن يحفر لها أساسات (Salles et. al. 1983). بينما يلاحظ أن في الجزء الجنوبي من قرية مقابة الحالية توجد أطلال لقرية قديمة أخرى، ومنها آثار جامع كبير بُني فوق تل مرتفع. تمثل هذه الأطلال آثار قرية قديمة أخرى، لم يعد لها وجود حالياً، إنها قرية الرويس المندثرة.

إذاً، ومن خلال هذه المعطيات الآثارية والروايات السردية، فإنه بالإمكان رسم صورة قديمة لقريتين متجاورتين، الأولى في الجنوب، وهي الرويس، وقد بُني جامعها فوق تل مرتفع، والأخرى في الشمال، وهي مقابة القديمة، وقد بُني جامعها على أرض منبسطة وأقل انخفاضاً من الجنوب. أما في الوقت الراهن فقد تغيرت الصورة تماماً، ولم يبقَ من تلك القريتين إلا الآثار. فأما آثار قرية مقابة القديمة فجزء منها يوجد في جنوب باربار، وجزء اختفى تحت شارع البديع ودوار سار، وأما الجزء الآخر فيمتد في الجزء الشمالي من قرية مقابة الحالية، ويشمل المقبرة الحالية، وآثار مسجد المدرسة، وآثار مسجد المهز (أو الرويس).

أما الجزء الجنوبي لقرية مقابة الحالية، فلم يكن يعرف بهذا الاسم في السابق، بل كان قرية أخرى تعرف باسم قرية الرويس. هذه القرية، وبحسب الآثار التي عثر عليها، بنيت بصورة مغايرة لقرية مقابة؛ حيث بُني جامعها على تلة مرتفعة، وكذلك بقيت الآثار، فجزء منها على تلال منخفضة مقارنة بقرية مقابة القديمة. أما الأراضي الزراعية لكلا القريتين فقد كانت متجاورة ومتداخلة. وبلاشك، أن سكان كلا القريتين كانوا يعملون جنباً إلى جنب، وبصورة تعاونية؛ وذلك بسبب عيون المياه المشتركة بينهم وكذلك نظام القنوات التحت أرضية والثقب المنتشر في المنطقتين. ويكون الاحتكاك بين سكان القريتين أكثر في فصل الصيف وذلك في فترة العناية بالنخيل؛ حيث تنتشر المضاعن في المزارع وبين النخيل. أما عملية تصريف المياه الزائدة من الأراضي الزراعية فتتم عن طريق قنوات فوق سطح الأرض تسمى منجيات. هذه المنجيات تصرف المياه الزائدة باتجاهين، الأول باتجاه الساحل الشمالي، أما الثاني فيتجه جنوباً حيث يصب في قناة كبيرة يجمع فيها مياه العديد من المناطق الزراعية الأخرى (كسار وعالي والشاخورة). وكانت تصب هذه القناة في مقطع خليج توبلي.

الرأس والرَأئِس والرويس

يوجد في الوطن العربي ثماني مناطق على الأقل يطلق عليها مسمى الرويس، ومن خلال تتبع الوصف الجغرافي لهذه المناطق يتضح لنا أن مسمى الرويس وصفي وله معنيين. فأما المعنى الأول له, فهو تصغير رأس والتي تاتي بمعنى اليابسة الممتدة في البحر، شبيهة بمسمى رأس البر على سبيل المثال. وهناك أربع مناطق أطلق عليها مسمى رويس بهذا المعنى، وهي الرويس في قطر وتقع في أقصى شمال دولة قطر, والثانية في جدة في المملكة العربية السعودية, والثالثة في عمان وتسمى راس الرويس وتقع بين محافظتي الوسطى وجنوب الشرقية, وأما المنطقة الرابعة التي تسمى الرويس لأنها تمتد في الماء فتقع في اليمن في محافظة أبين.

أما المعنى الثاني للرويس، فإنها تصغير رَأئِس، جاء في معجم تاج العروس مادة (روس): «الَّرَوائِسُ: أعالِي الأَوْدِيَةِ الوَاحِدَةُ: رَأئِسٌ». وجاء أيضاً فيه: «والرَّائِسُ : رَأْسُ الوَادِي. وكُلُّ مُشْرِفٍ : رَائِسٌ». وقد اشتق اسم الرويس من لفظة رئيس وهو تصغير رَأئِس، أما العامة فقد قلبت الهمزة واو للتسهيل، وكذلك عممت اللفظة لتعني التلة المنخفضة. وهناك أربع مناطق في الوطن العربي أطلق عليها مسمى الرويس لأنها مرتفعة أو بها تلة مميزة. ومن هذه المناطق قرية الرويس في فلسطين في شرق عكا، وقد جاء في الكتيب التعريفي لهذه القرية أن معنى الرويس التل المنخفض الارتفاع (الغباري 2013). وكذلك الرويس في لبنان، وجاء عنها أنها سميت بذلك بسبب التلة المميزة التي تقع عليها القرية (www.ololb.org). وهناك قرى أخرى بعيدة عن البحر ربما سميت بالرويس بسبب ارتفاعها أو وجود تل معين، وهي الرويس في أبوظبي، وقرية الرويس في محافظة إب في اليمن.

يبدو مما سبق أن قرية الرويس في البحرين قد سميت بهذا الاسم بسبب التلال التي توجد بها، وخصوصاً التلة التي بني عليها جامع الرويس الرئيسي. هذا وتوجد أعداد أخرى من التلال التي بنيت عليها مساجد أو منازل سواء في قرية الرويس القديمة أو قرية مقابة القديمة. منها على سبيل المثال، مسجد المدرسة والذي يقع جنوب مقبرة مقابة الحالية، وكذلك مسجد المهز (أو الرويس) والذي يقع شرق مقبرة مقابة الحالية ومطلاً على شارع البديع، ويلاحظ أنه يسمى ايضاً بمسجد الرويس لأنه يقع فوق تلة.

الآثار القديمة

تشير عمليات المسح والتنقيب إلى أن أرض قرية مقابة الحالية كانت مستوطنة في الحقب الدلمونية القديمة، ولكن ربما بصورة متقطعة؛ وذلك لعدم تسلسل اللقى الآثارية التي تم العثور عليها في هذه المنطقة (Larsen 1983, figure 7 and appendix 2). كذلك، فقد تم العثور على عدد من التلال الآثارية التي تحتوي على قبور تعود للحقب الهلنستية، وتشير نتائج التنقيب في هذه المدافن إلى أنها تعود للحقبة ما بين 250 ق. م. و 450 م (Andersen 2007). وربما سميت مقابة بهذا الاسم بسبب كثرة التلال المحيطة بها، فبحسب الاستخدام الحديث للفظة «مقب» و «مقاب» فهي تعني المرتفعات التي تبنى فوق بعض الشوارع لتخفيف سرعة السيارات.

أما فيما يخص آثار الحقبة الإسلامية، فتشير نتائج المسح إلى أن كل من مقابة والرويس القديمة تأسست فيما بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر (Larsen 1983, figure 7 and appendix 2). هذا ويوجد في كلا القريتين نظام مائي مشترك، عبارة عن قنوات تحت أرضية وثقب، وتؤكد الدراسات الآثارية على أن هذا النظام تم إعادة العمل به في البحرين في قرابة القرن الثاني عشر الميلادي، على رغم أنه لا يعرف بالتحديد متى تم بناؤها (Larsen 1983, pp. 87 - 88). هذا، وهناك عدد من الأعلام التي ارتبطت أسماؤهم بهذه القرى، والذين عاشوا في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، وقد تطرقنا لها في الحلقة السابقة.

تمثل قريتي الرويس ومقابة مثالاً واحداً لعملية اندماج القرى أو سيادة قرية على أخرى، وهناك أمثلة أخرى اندمجت أو انتقلت من مكانها لمكان آخر، وهذا ما سنتطرق له في الحلقات القادمة.

العدد 4620 - الجمعة 01 مايو 2015م الموافق 12 رجب 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً