قبل 21 عاماً أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة عن أمر هام. فـ بموجب قرارها 48/432 ومن مدينة ويندهوك الناميبية، تقرر أن يكون الثالث من مايو/ أيار من كل عام يوماً عالمياً لحرية الصحافة. وقد تبع ذلك أن أصدِرَت وثيقة من 19 بنداً تحوي 967 كلمة تدعو إلى لقيام «وسائل إعلام مستقلة وحرة تقوم على التعددية في جميع أنحاء العالم».
ومنذ ذلك الوقت والعالم يحتفي بهذه الذكرى التي تصادف غداً، وقد تكون الوحيدة التي تُحيى بمزيد من الأمل والألم في آنٍ واحد. ففي الوقت الذي تسعى الشعوب لوضع قَدَم لها في الحرية، يموت في سبيلها الكثيرون من حاملي كلمتها وصورتها. ففي العام الماضي وحده، قُتِلَ 66 صحافياً واختُطِفَ 199 آخرون في شتى أنحاء العالم. وهو أمر يتكرر كل عام بزيادة أو نقصان، إلى الحد الذي ضجّت فيه جدران متحف الصحافة والإعلام بصور الزملاء القتلى الذين قضوا نحبهم.
في يوم الصحافة وحريتها، يكتشف المرء أن الكلمة كانت ومازالت الشيء المكروه عند الحكومات وتابعيها وبالتحديد تلك الموسومة بالظلم والتمييز. فقد خاضت العديد من الأنظمة الفاشلة غمار الدَّم البشري وانتهاك الحقوق من أجل إسكات تلك «الكلمة»! وهو أمر يجعل المرء يتأمله جيداً، إذْ كيف تخشى الحكومات وهي بكامل قوتها كلمة لا أكثر؟! هذا السلوك لم يكن وليد اللحظة في عالمنا العربي بل منذ سنين وعهود ماضية.
قبل 146 عاماً قام كل من إبراهيم المويلحي وعثمان جلال اللذين نهلا من علوم الغرب بإصدار نزهة الأفكار كـ صحيفة سياسية أسبوعية. ولأنهما كانا ذوا طموح كبير، فقد بدت مجلتهما مختلفة عن السائد الصحافي المصري في ذلك الوقت لما كانت تتناوله وتعلق عليه، لذلك، كانت لغتها مختلفة عن المكتوب والمعروض على الحاكم آنذاك وهو الخديوي إسماعيل فما كان منه إلاَّ أن أمر بإغلاق المجلة وهي بالكاد تصدر عددها الثاني.
في أحيان أخرى لا تلجأ الأنظمة الفاشلة إلى إسكات الكلمة وإغلاق الصحف، بل تسعى لإنشاء صحف موميائية تُبشِّر وتهلِّل بما تقوله تلك الأنظمة. وهي سياسة دأب عليها الاستعمار من قبل وتعلمها الفاشلون منه. وجميعنا يتذكر خطة اللورد كرومر، عندما أنشأ صحيفة المقطم في مصر على يد مجموعة من الأشخاص كي تنافس الصحف المصرية الحرة.
لقد كانت سياسة كرومر بحسب إبراهيم عبده أنها تُسلِّط القانون على الصحف الحرة التي كانت تعاني من ضعف التمويل أصلاً والتصيّد عليها، وبالمقابل يُغدق على صحفه الإعلانات ويُسرِّب لها الأخبار كي تبرز. فصدرت المقطم في 29 أبريل 1888م، وكانت مقالاتها وأخبارها تُمجِّد في الكرومرية وتهاجم الوطنيين «بالتدليس والخداع» بل وكانت تنشر بعض الأحكام القضائية قبل النطق بها كما جاء في وثائق الصحافة المصرية.
وفي حقيقة الأمر، أنه ومن ذلك المثال، وما تلاه لاحقاً من أمثلة مشابهة، فإن الصحافة والكلمة لم تُظلَم فقط بالمنع أو بالإغلاق وبسياسة قص الرقيب، بل ظُلِمَت بسياسات الحرب غير المباشرة، أو كما تُسمَّى بالنيرونية، التي تسعى عادة لخلق رأي عام أعوج ومُشوَّه عن طريق تشغيل الضجيج عليه وإغلاق آذانه عنوة كي لا تسمع الناس شيئاً سليماً للواقع يُمكن أن يدفعهم للانتباه إلى حقيقتهم ولحقيقة ما يجري لهم وحولهم.
كذلك لم يُظلَم الناس فقط لأنهم حُرموا من المعلومة والحقيقة، بل حتى اللغة ظُلِمَت وتشوَّهت وباتت تُوظف للشتيمة والإيقاع بالخصم، فكُيِّفَت المقالات والأخبار والتحقيقات وتمّت صياغتها وفق نسق لغوي هابط، لأن الأساس كان توجيه كل شيء من أجل الدفاع عن الصنميَّة. لقد كان مطلوباً منها أن تقوم بتجميل القبيح وتحسين النشاز وتصديق الكذب وتجريم البريء وهكذا.
وعندما تهبط الصحافة إلى هذه المنزلة لا يكون لأخبارها ولا لمقالاتها ولا حتى للغتها طعم ولا لون ولا رائحة عند العقلاء. والجميع يعلم، أن توجيه الصحف كي تكون أداة للهدم والتسويق لمشاريع السلطة الفاشلة وسياساتها القمعية يُضيِّق أمامها الخيارات ويجعلها أسيرة لهدف واحد فقط يكون هو بمثابة الزاوية التي ترتكز عليها. أما إذا حدث العكس وأُطلِق لها عنان التفكير والرأي فتراها تُبدع وتزدهر، وتصبح كالقطع النثرية.
أتذكر هنا نصاً جميلاً كتبه أديب إسحاق عن مؤتمر برلين قبل 137 عاماً في صحيفته. وإسحق كان يُعد من أرباب الصحافة العربية الحرة، التي أثرت حتى في حركة الأدب والشعر. يقول في وصفه: «هذه الدولة العثمانية قد أكرهت على ما تكره، وتضامنت لحكم الزمان، فتقلّص ظل مجدها، وأفل نجم سعدها وأصبحت بين الروسية، وإنجلترا كالسفينة بين عاصفتين، فلجأت إلى الثانية رجاء أن تشد أزرها، وتؤيد أمرها، فكانت كالمستجير بالنار من الرمضاء، إذ استولت إنجلترا على أحسن جزائرها، وقبضت على زمام الإدارة في بلادهم الآسيوية، وألقت الوحشة بينها وبين دولة إسلامية مهمة، وجعلتها بين داخلية ممزقة بالفتن، وخارجية مشوّهة بالعداوة والإحن». كما في نشأة النثر الحديث.
في كل الأحوال، فإن ذكرى حرية الصحافة تمر علينا غداً مذكرة إيانا بأن محور المعركة لايزال هو الكلمة لا غير. وفي هذا نتذكر جيداً ما قاله الشاعر الألماني غوتفريد بن (1886م - 1956م) عندما قال: «في البدء كانت الكلمة وليس الثرثرة، وفي النهاية لا تكون الدعاية بل الكلمة كذلك».
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4620 - الجمعة 01 مايو 2015م الموافق 12 رجب 1436هـ
مهنةالصحافة هي مهنة المتاعب وتوجيه الرأي العام و السلطة الرابعة مهنةالصحافة هي مهنة المتاعب وتوجيه الرأي العام و السلطة الرابعة
وغيرها من المسميات الاخري اصبحت الآن لسان حال السيا سيين يخضع لتوجهات معينة من الزعيم او رئيس الحزب اكان حزبا سياسيا او دينيا او علمانيا
الصحفي الآن مطالب بنقل وجهة نظر "المعزب" حاله حال اي موظف وليس صحفيا مطالب ان يقوم بدور الوسيط في نقل الحدث وتحليله الي الناس واضافة التفاصيل وتفسير ما خفي علي العامة.
الغريب العجيب انه حتي الدول الغربية وبالذات الولايات المتجدة الامريكية وبريطانيا العظمي التي تتبجح بالديمفراطية واحترام سيادة القاون لم تعط المثل الذي يجب ان يحتذي به في خرية الصحافة
تعجبني يا اخ محمد وانا اتابع مقالاتك اللغة الرقمية فيها انا شخصيا اجد راحة كبيرة
نرجع لمقالة اليوم ، الله سبحانه وتعالى اقسم في كتابه الكريم بالقلم والكلمة حيث قال :( نون والقلم وما يسطرون )
وقال تعالى عن اللذين يخافون من الكلمة ( يحسبون كل صيحة عليهم ) وهذه سنة الله في خلقة ولن تجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا، وسيكتب التاريخ غدا عن الاوراق الصفراء التي لم تنفع الناس ومجرد غوغاء وتشويش لعقول الناس ، وكذلك عن الكلمة الصادقة التي بقيت في نفع الناس ( واما الزبد فيذهب جفاء واما ما ينفع الناس فسيبقى في الارض ) هذا بالمعنى القرآني . وشكرا لكم ولاسرة الوسط . .
رائع
هذا مقال رائع و ممتاز ولكن
انت تنادي وانا انادي ولا خياة لمن تنادي