العالم الذي تتمدَّد معظم مدنه ومشاريعه العملاقة، يتذكَّر العمَّال في يوم واحد فحسب، جعَلَه عيداً لهم. يوم الأول من مايو/ أيار من كل عام: عيد العمَّال العالمي؛ لكن بعد ذلك اليوم، تستمر دول عديدة في استنزاف العامل وابتزازه، وتعريضه إلى أقسى الظروف والبيئات المهددة لسلامته وصحته؛ عدا حقوقه المنقوصة.
المطالب... الاعتصامات والإضرابات... والثمن الفادح الذي يُدفع في سبيل ذلك، هو صيغة أخرى لصناعة المستقبل. المستقبل الذي يبدو بطيئاً ولكنه سيأتي يوماً؛ وبعبارة أصح، سيذهب إليه أولئك الذين لا يكفُّون عن المحاولة.
نضالات منذ العام 1938 تخلَّلتها دماء واعتقالات ونفي وإصرار.
ذلك ما يحاول كتاب «صفحات من تاريخ الحركة العمَّالية البحرينية» للنقابي البارز عبدالله مطيويع، الصادر عن دار الكنوز الأدبية في بيروت العام 2006، أن يقوله، بتتبَّع الأطوار والمنعطفات التاريخية التي مرَّت بها الحركة العمَّالية في البحرين، وما تمخَّض عن ذلك الحراك طوال عقود، واجهت فيها الحركة أنواعاً من التضييق ومحاولة كسر العظم؛ عدا الزجّ بقيادات الحركة في السجون، أو الملاحقة، أو الحرمان من أبسط حقوقها؛ وصولاً إلى الصيغة التي وصلت إليها الإرادة العمَّالية في 13 يناير/ كانون الثاني 2003، بانعقاد المؤتمر التأسيسي الأول للاتحاد العام لنقابات عمَّال البحرين.
وبحسب تعريف الناشر للكتاب، فإنه يرصد الصراعات التي خاضها العمَّال طيلة القرن الماضي، منذ الإضراب العمَّالي الشهير العام 1938، لتحسين ظروف عملهم، ومن أجل انتزاع حقهم في العمل النقابي.
المحطات كثيرة التي توقف عندها مطيويع، بدءاً من تجربة اتحاد العمل، والذي وضعت لبناته هيئة الاتحاد الوطني العام 1954، وصولاً إلى التجربة الأطول من خلال اللجنة التأسيسية التي انتقلت من العمل العلني إلى شبه العلني أو السري، والنضالات التي خاضتها داخل البحرين وخارجها، وإزاحة أو اختراق الصيغ الكاريكاتيرية للنقابات التي تم تهجينها (النقابات الصفراء)، والتي شرعت الحكومة الأبواب من أجل قيامها، ونرى التاريخ يعيد نفسه، مع كل حراك تسعى فيه نقابة العمَّال أن تكون مستقلة، وبعيدة عن تدخل الطرف الحكومي في شئونها!
قبر بونفور... المقدِّمة
تسبق مقدمة الكتاب صورة للمؤلف أمام قبر رفيق نضاله الشهيد محمد بونفور، الذي قضى في الثاني من يوليو/ تموز، وأحد الذين قادوا العديد من التحركات العمَّالية طوال مرحلة الستينات ومطلع السبعينات من القرن الماضي. بونفور الذي غادر العالم وهو في التاسعة والعشرين من عمره، يُعدُّ أول شهداء البحرين في مرحلة ما بعد الاستقلال. كانت وقفة تذكُّر ووفاء من مطيويع ملفتة ومؤثرة.
المقدمة تناول فيها مطيويع جانباً تاريخياً يبدأ من الانسحاب البريطاني من شرقي السويس، وترتيب أوضاع المحميَّات الخليجية، والاستنتاجات التي خرجت بها بعض النخب من أن عصراً ديمقراطياً جديداً ينتظر دول المنطقة، وحُزَم الوعود التي ألقيت في الهواء، وما أسفرت عنه تلك الوعود بعد العام 1971، من تراجع وتقطير الدفع بالحقوق وتحقيق المطالب، ومعاودة الحركة العمَّالية لتحركاتها المطلبية، استناداً إلى إقرار السلطتين البريطانية والبحرينية، بشرعية المطالب في قانون العمل الذي أصدرته العام 1957، والذي نصَّت مواده، وتحديداً في الباب الثالث المواد 42 - 67، على حق العمَّال في تشكيل نقابات تدافع عن حقوقهم.
في المقدمة عبور إلى انتفاضة 5 مارس/ آذار 1965، ومعاودة مطالبة الطبقة العاملة في العام 1968، بتشكيل نقابة عمَّالية في دائرة الكهرباء، وموجة القمع والاعتقالات والمطاردات التي تمَّت.
تُعطي المقدمة صورة خاطفة لتاريخ طويل من النضال العمَّالي والسعي إلى تشكيل كيان يحمي حقوق العمَّال وفق القانون، ووضع حد لجور وظلم طال تلك الطبقة المهمة لعقود من الزمن.
اللجنة التأسيسية لاتحاد عمَّال البحرين
في الفصل الأول من الكتاب، يتناول مطيويع، بدايات النشاط المطلبي النقابي؛ إذ في العام 1938، وبعد اكتشاف النفط «كان عدد عمَّال شركة بابكو 3350 عاملاً، منهم 2000 بحريني، يمثلون 60 في المئة تقريباً من مجموع القوى العاملة».
لم يتجاوز أجر العامل البحريني وقتها 6 آنات هندية، في الوقت الذي عمدت فيه الشركة إلى جلب موظفين أجانب ليحتلوا الوظائف الإشرافية والإدارية في الشركة. تعرَّض العمَّال البحرينيون في الشركة إلى استغلال من قبل أكثر من طرف، من الشركة والوسيط الذي يتقاضى نسبته هو الآخر؛ علاوة على ساعات العمل التي تمتد إلى 12 ساعة يومياً.
ظلت المطالب بتحسين ظروف العمل وأوضاع العمَّال مستمرة، دون جدوى إلى أن قرَّر العمَّال بحكم التنظيم الذي توافر لهم، إعلان الإضراب عن العمل في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 1938، وكشف الموقف عن روح متجانسة بين العمَّال على اختلاف طوائفهم سنة وشيعة، وكانت المطالب وقتها:
1- ألاَّ تقل أجرة العامل العادي عن أربع روبيات يومياً.
2- أن يُدفع للعمَّال أجر يوم عمل في العطلات، إن كانت عطلة نهاية الأسبوع أو عطلات العيد.
3- أن تُيسَّر لكل العمَّال مواصلات تنقلهم من البيت إلى العمل؛ وبالعكس، أسوة بالعمَّال الأجانب.
4- أن تزداد العطلات السنوية لتصبح شهراً واحداً في كل عام.
5- أن يتقاضى مشرف العمَّال 10 روبيات في اليوم؛ أسوة بالمشرفين الأجانب.
6- ألاَّ يُعامل العمَّال بقسوة، ويُضرَبون من قِبَل رئيسهم.
7- إذا أصيب العامل إصابة في العمل فإن من حقه أن يتقاضى أجره حتى يتعافى.
8- إذا مرض العامل (بشهادة الطبيب) فإن الشركة تدفع له نصف أجره خلال مرضه.
9- على الشركة أن تدفع علاوة حرب بمقدار 15 في المئة، تُربط بأجر العامل.
10- كل ما يُقدَّم من أرزاق أو تحسين لحالة العمَّال، فإن الشركة مُلزَمة بمساواة العمَّال البحرينيين بهم.
11- يجب وقف تغريم البحرينيين على الأخطاء الصغيرة.
12- الموافقة على الشروط السابقة ليست موافقة مؤقتة وإنما دائمة، وتُطبَّق على العمَّال الحاليين، والذين يُتوقع أن يعملوا في الشركة في المستقبل.
13- يجب أن تعلن الشركة للجمهور والعمَّال كل الطلبات السابقة، وعليها الإعلان ما إذا كانت تقبل هذه الطلبات أم ترفضها.
دمج المطالب
لم تجمَّد تلك المطالب؛ بل تم دمجها بعد أن التقطتها الحركة الوطنية «حيث رفعت الحركة الإصلاحية التي انبثقت في ديسمبر/ كانون الأول 1938، المطالب التي رفعهتا الحركة الإصلاحية في العشرينات لتؤكِّد أن المطالب تتلخَّص في الآتي: «إنشاء مجلس تشريعي، إعطاء أبناء البحرين أفضلية التعيين في شركة النفط، والسماح بإنشاء النقابات، وتحديد ساعات العمل، ووضع قانون عام ينظِّم شئون العمل والعمَّال».
بتلك المطالب، وصلت الأمور إلى المحكمة لفض هذا النزاع، وكانت تُهم التحريض جاهزة، كما هي في الأوقات جميعاً! وعلى إثرها تم أخذ عدد من زعماء الإضراب، ومن بينهم محمد صالح الدلال، إلى المحاكمة بتهمة تحريض العمَّال على الإضراب «على رغم أن الشركة هي التي طلبت منه أن يقوم بدور المترجم بين العمَّال والشركة»!
وككل الفترات التاريخية التي تبرز فيها مثل تلك المطالبات؛ سواء على مستوى طبقة العمَّال أو غيرها من المطالبات العامة التي يتم الالتزام ببعض منها، وتعويم وتعليق وتسويف بعضها، وذلك ما حدث في الثلاثة عشر مطلباً التي تقدَّمت بها الحركة العمَّالية في الشركة.
وفَّرت هيئة الاتحاد الوطني الظروف لتعميق تلك المطالب، والإسهام في تعميق الوعي بها في الوقت نفسه، في خمسينات القرن الماضي، وبما أتيح لها من التفاف الشارع حولها، ليبرز المؤتمر الشعبي العام في منطقة السنابس في العام 1954، الذي خرج بقرارات مُهمَّة:
-1 تأسيس مجلس تشريعي يمثل أهالي البلاد تمثيلاً صحيحاً عن طريق الانتخابات الحرة.
-2 وضع قانون عام، جنائي ومدني، على يد لجنة من رجال القانون، يتماشى مع حاجاتها وتقاليدها المرعية، على أن يُعرض على المجلس التشريعي لإقراره.
-3 السماح بتأليف نقابة للعمَّال، ونقابات لأصحاب المهن الحُرَّة، تعرض قوانينها ولوائحها على المجلس التشريعي لإقرارها.
وقُيِّض لـ «الهيئة» تشكيل اتحاد العمل البحراني للعمل والموظفين وأصحاب المهن الحُرَّة في البحرين، وما تبع ذلك من إقامة صندوق التأمينات الاجتماعية.
انتفاضة 1965
كان للمطالب بعودة المفصولين إلى أعمالهم مطلع العام 1965، ثمنها الفادح من الدم والأرواح، وتوالى الشهداء ممن دافعوا عن تلك الحقوق والمطالب، بارتفاع أرواح بعضهم في المنامة والمحرق وسترة والنويدرات والديه.
كان لقمع الانتفاضة دورها في تعميق الوعي والتمسك بالمطالب، بتعدد الاضرابات والاعتصامات، ومعها أيضاً تعدَّدت أساليب وطرق القمع والتنكيل.
ويورد عبدالله مطيويع في كتابه، أن أول محاولة سلمية ضمن حدود قانون العمل «جرت في دائرة الكهرباء في أبريل 1968، وتجدَّدت في يوليو/ تموز من العام نفسه؛ حيث لعبت اللجان العمَّالية التي شكَّلها العمَّال دوراً كبيراً في قيادة نضالاتهم». الاعتقالات لم تنقطع، بإلقاء القبض على قادة إضراب أبريل 1968، ونفي بعض؛ الأمر الذي دفع السلطة وقتها إلى إقامة مركز للشرطة داخل مبنى محطة توليد الكهرباء. فيما تبدَّت المحاولة الثانية في يوليو العام 1970، بتقدُّم عمَّال شركة «الطيران» بطلب تشكيل نقابة عمَّالية موقَّع من 270 شخصاً، أهمل الطلب، وتمت ملاحقة «العناصر النشطة أو الإبعاد عن الوطن، أو سحب جواز السفر، والنفي إلى خارج البحرين».
اتحادات مُتعدِّدة
أفشل اتحاد المهن والطبقات جميعها، جهود السلطات في العام 1955، من خلال الحيلولة دون قيام اتحاد للعمَّال.
تم طرح بديل من قبل اللجنة التأسيسية في حال فتح الحكومة «باب الحوار» بشأن شكل التنظيم النقابي الذي قد تطرحه الحكومة بديلاً لاتحاد عام للعمَّال والموظفين وأصحاب المهن الحُرَّة وكان على النحو الآتي:
1- نقابة عمَّال ومستخدمي شركة نفط البحرين (بابكو).
2- نقابة عمَّال ومستخدمي شركة البرق واللاسلكي.
3- نقابة عمَّال ومستخدمي شركة طيران الخليج.
4- نقابة عمَّال ومستخدمي شركات المقاولات.
5- نقابة عمَّال ومستخدمي شركة ألبا.
6- نقابة عمَّال ومستخدمي الدوائر (الوزارات) الحكومية.
7- نقابة عمَّال ومستخدمي المؤسسات التجارية.
8- نقابة عمَّال ومستخدمي البنوك.
الاختيارات الصعبة
يضيء مطيويع في الكتاب نشاط الحركة العمَّالية مُمثَلة في اللجنة التأسيسية مطلع ثمانينات القرن الماضي. ذلك النشاط قاد إلى حملة اعتقالات واسعة النطاق في العام 1980. الضغوطات في الداخل والخارج عملت عملها في تجميد حال التعنُّت بمجيء العام 1982، من خلال تخريجة ارتكزت على إيجاد بديل عن النقابات، بطرح السلطة وقتها مشروع اللجان في العرف الاشتراكي وهي «نقابات صفراء مُوجَّهة من قبل الحكومة».
من يوميات انتفاضة مارس 1972
تبدأ يوميات الانتفاضة العمَّالية من يوم الأربعاء (8 مارس 1972)، بإضراب «في قسم صيانة الطائرات بمطار المحرق»، وذلك حين عمدت شركة الطيران بالاتفاق مع عمَّال آسيويين، لتوعز للبحرينيين القيام بتدريبهم. شعر العمَّال البحرينيون أن ذلك سيكون على حسابهم، ولم يكن مصيرهم معروفاً. لم يكن هناك من خيار سوى إيقاف العمل بصورة كاملة في قسم صيانة الطائرات، وجدَّد المعتصمون مطالبهم التي تحدَّدت في الآتي:
-1 تشكيل نقابة عمَّالية.
-2 زيادة الأجور بنسبة 25 في المئة.
-3 توفير المواصلات.
-4 إتاحة الفرصة للبحرينيين للعمل وتحقيق شعار (بحرنة الوظائف).
-5 رفض تدريب العمَّال (...).
وفي اليوم التالي (الخميس) الموافق 9 مارس 1972، أضرب عمَّال وموظفو دائرة التموين، ومن ثم بقية الأقسام.
وبحسب الكتاب، فإنه في يوم السبت (11 مارس) «انتشرت أخبار إضراب عمَّال شركة (الطيران) (...) إلى سائر العمَّال في الشركات والمرافق الحكومية الأخرى، وازدادت شائعات عن إضراب سيقوم به عمَّال ومستخدمو مستشفى السلمانية التابع إلى وزارة الصحة».
وصولاً إلى يوم الثلثاء (14 مارس)؛ حيث أخذت الأحداث منحى تصاعدياً، لم ينبئ عن انفراجة بوضع حلول والتزام بتلك المطالب. في ذلك اليوم «قامت مظاهرات عمَّالية في المنامة وتصدَّت لها فرقة الشغب فأطلقت عليها القنابل المسيلة للدموع؛ ما أدَّى إلى جرح عدد من المتظاهرين. كذلك هاجمت مجموعات من فرقة الشغب العمَّال المعتصمين في مناطق العمل في محاولة لإجبارهم على ترك مكان العمل وفك الاعتصام»، وما تبع ذلك من موجة اعتقالات طالت العمَّال وعدداً من الطلبة والمدرسين.
لتتطور الأمور وصولاً إلى يوم الأربعاء (15 مارس 1972)؛ حيث «هاجمت قوة (فرقة الشغب) عمَّال (ومبي ديلونج) المعتصمين في مكان عملهم، واستخدمت الهراوات وقنابل الغاز».
على الجانب الآخر، وكما يشير مطيويع في كتابه، وفي اليوميات نفسها، كان عمَّال شركة الألمنيوم «قد احتجزوا من قبل قوات الشغب بعد دوام يوم الخميس (9 مارس) ولم يسمح لهم بمغادرة المصنع، بسبب إضراب العمَّال من الدوام الآخر، وعدم حضورهم لتسلُّم النوبة».
تظل قليلة هي الكتب التي تقترب من تلك التخوم المليئة بالحساسية بالنسبة إلى أطراف؛ وخصوصاً إذا أعاد التاريخ نفسه بين المراحل تلك، وبالممارسات نفسها، قلَّتْ أو كثرتْ، وعبدالله مطيويع، لا يعدم مصادر التوثيق والجرأة على الاقتراب من تلك التخوم!
لا يبتغي الكتاب استرجاع التاريخ. استرجاع النضالات تلك فحسب، وهو أمر له أهميته البالغة؛ لكن الابتغاء الأهم والضروري، هو التذكير بأن كل الحراكات تلك هي التي تَعِد وتصنع المستقبل. المستقبل الذي ربما يبدو بعيداً كي تنعم طبقة العمَّال بالرئيسي من حقوقها، ولكنه سيأتي اليوم الذي تتحقق فيه، وإن تأخَّر. وبمثل تلك الحراكات، لا يحتاج العمَّال إلى انتظار المستقبل كي يأتيهم، فهُم بذلك يمهِّدون الطريق للذهاب إليه؛ بل بدءوا الخطوات الأهم لذلك.
العدد 4619 - الخميس 30 أبريل 2015م الموافق 11 رجب 1436هـ
والنعم فيك يابوراشد (عبدالله مطيويع)
عبدالله مطيويع شيخ النقابيين فهو يعد مدرسة في العمل النقابي ضحي بالكثير من اجل الناس اتمني من المهتمين بالعمل النقابي ان يتعلمو من مطيويع فهو ضحي بكل شي حيث سجن وتأثرت صحتة ليومنا هذا فهو من قاد ...... هذا الرجل الفذ المضحي يجب تكريمة ليس ماديا او معنوينا بل بالسير علي نهجة الله يعطية الصحة وطول العمر ويري ان تضحياتة لم تذهب سدي
عجيييب
عطنا المزيد في هالموضوع