ربما تشهد الإنسانية فتحاً علمياً كبيراً في المدى المنظور. فقد انبرى طبيب الأعصاب الإيطالي المرموق سيرجيو كانافيرو إلى وضع دراسة تفيد بإمكانية زراعة رأس إنسان يعاني من مرض عضوي لا أمل في علاجه على جسد إنسان آخر صحيح البدن.
خلاصة التجربة هي زراعة رأس إنسان على جسد آخر «عن طريق ربط الحبل الشوكي»، في عملية جراحية معقدة يشارك فيها أكثر من مئة جراح وطبيب ومساعدون لهم، حيث تستغرق تلك العملية يوماً ونصف من العمل المتواصل! أي 36 ساعة في غرفة العمليات.
وقد أعلن قبل أيام خبير الكمبيوتر الروسي فاليري سبيريدونوف (30 عاماً) الذي يُعاني من «نوع نادر من ضمور العضلات الشوكي الذي يتسبب في ضعف حاد بعضلات الجسم»، بأنه يريد أن يخضع لتلك العملية التي ستُكلفه قرابة الـ 15 مليون دولار، وستجرى له «إما في الصين أو الولايات المتحدة»، وبالتالي فهو سيعتبر أول إنسان يخضع لها.
ومن المفارقة هنا أن أشير سريعاً إلى أن شيئاً من هذا (زراعة رأس على جسد آخر) قد ذُكِرَ كافتراض قابل للنقاش ويمكن التفكير فيه في مختصر المعاني للفقيه والمتكلم سعد الدين التفتازاني قبل سبعة قرون، وعلّق عليه الدسوقي المالكي في حاشيته قبل 206 أعوام في معرض تطرقه للقوة وتركيب الصور المحسوسة والمعاني المأخوذة من الوهم.
أرجع إلى ما قاله سبيريدونوف وهو يرى نفسه كسيحاً لا يقوى على شيء. لقد كانت دوافعه لإجراء العملية هو أنه لا يرغب في الانتحار، لأنه يحب الحياة جداً. لذلك سيُنقل رأس فاليري ليُثبَّت على جسد إنسان آخر من المتوفيين سريرياً لكنه صحيح العضلات والأعصاب، إلى الحد الذي يستطيع أن يحمل رأساً جديداً ويمارس حياة طبيعية كما يُؤمل.
وبقدر أهمية هذا الفتح العلمي الجديد الذي يجعل من تصوره خيالاً لا يتجاسر أحدٌ حتى عن التفكير فيه لبعده عن التصورات العلمية التقليدية، إلاَّ أن حديث سبيريدونوف الذي نقلته وكالات الأنباء مهمٌ أيضاً، لأنه يعكس تفكيراً نفتقده في حقيقة الأمر، وهو ما سأعتمد عليه في زاوية هذا المقال أكثر من أصل الخبر ونقل الرؤوس من أجساد إلى أخرى.
هذا الرجل الروسي المريض قال: «أتفهم أن مثل هذه الجراحة قد تمثل لي فرصة طيبة لمواصلة حياتي. وإذا وقع الأسوأ، وإذا لم يتحقق ذلك، سأعلم أنني ساعدت في توفير قدر كبير من البيانات بعد الجراحة ستساعد الأطباء في المستقبل على إنجاح مثل هذه الجراحات. ومن الناحية العملية يجب أن يكون هناك شخص يبدأ ذلك ويكون الأول. فلمَ لا يكون ذلك الشخص أنا؟». انتهى كلام سبيريدونوف.
الحقيقة أن ما قاله سبيريدونوف يفتح النقاش أمامنا لطرح موضوع مهم يتعلق بهذا المشوار الممتد للإنسانية، ومَنْ هم الذي يُضحون من أجل تقدم مسيرها. فنحن ورغم أننا نمضي في هذا الركب العظيم، إلاَّ أننا لا نُحس ولا نشعر بالكيفية التي تسير من خلالها البشرية، ولا نسأل أنفسنا إن كنا (كأفراد) مساهمين في تطورها أم لا. هذا أمر مهم جداً.
نحن نسمع بالاختراعات المتتالية التي تأتينا من الجامعات والشركات ومعامل الأبحاث في الشرق والغرب، لكننا نبقى مجرد صامتين لا نفعل شيئاً لا في ابتكارها ولا في تطويرها ولا حتى في التأمل فيها، وبالتالي فنحن أشبه بالمشاهدين الذين يتابعون فيلماً سينمائياً، فهم لا يقومون بأدوارٍ في أحداثه كممثلين، ولا يكتبون نصه مثل ما يفعل السيناريست، ولا يُفسّرونه بالإخراج ولا يقومون بتوليفه كمونتاج ولا أي شيء آخر. لذلك فهم يدفعون قيمة التذكرة ليشاهدوا وقائعه لقتل الوقت أو الاستمتاع بالمشاهد لا أكثر.
مسئوليتنا تجاه الإنسانية (كوننا ننتمي إليها) لا ينحصر في شيء محدد بل هو مجال مفتوح يشمل كل عناء يمكن أن يبذله المرء في سبيل تقدمها. هناك مَنْ يعطيها دمه ليُكرِّس حرية أو يمنع عدواناً أو يدافع عن شرف أو حق، وهناك في الوقت نفسه مَنْ يقدِّم روحه من أجل كشف علمي ويقبل أن يكون مكان التجربة كي يحفظ الملايين أرواحهم.
وهناك مَنْ يفعل أشياء أخرى مماثلة ولا تقل أهمية عن تقديم الدم. فقد ينبري آخرون إلى فقأ عين الأفكار وبَقْر بطون العلم مواجهين بالقلم واللسان (وعبر الجديد وغير المألوف) ذلك التخلف والأمية والانغلاق، فيدفعون أثماناً غالية، بعضها اجتماعي، حيث يُحاصرون ويقسو عليهم الدهماء، وفي أحيان أخرى يُحارَبون اقتصادياً وربما يقتلون حتى كما حصل لغاليليو غاليلي في إيطاليا.
لننظر إلى سبيريدونوف. إنه شخصٌ مُقعدٌ ولا يقوى على الحركة، لكنه آثَر أن يفعل شيئاً لنا. لقد تحدّث بأنه قادرٌ أن يُفيد العلم والعلماء وينفع مستقبل البشرية في الحالتين. فإن نجحت عمليته وعاش، فإنه سيكون سعيداً مستمتعاً، والمثال الأول الذي سيسترشد به العلماء بكل نتائجه ومضاعفاته. وإن لم تنجح ورحل عن الدنيا فهو قد وفّر قدراً كبيراً من البيانات للأطباء كما قال. وقاعدته الأساسية هي أنه يجب أن يبدأ أحدٌ بالأمر.
أختم حديثي بعبارة جميلة قالها الطبيب الأرجنتيني الثائر أرنستو تشي جيفارا: «إن الطريق مُظلمٌ وحالك، فإذا لم تحترق أنت وأنا فمن سينير الطريق؟».
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4618 - الأربعاء 29 أبريل 2015م الموافق 10 رجب 1436هـ
موئثرة ومبكية هذه الفقرة :(،كم أتمنى لو لم أولد في هذا المجتمع المستهلك البائس
نحن نسمع بالاختراعات المتتالية التي تأتينا من الجامعات والشركات ومعامل الأبحاث في الشرق والغرب، لكننا نبقى مجرد صامتين لا نفعل شيئاً لا في ابتكارها ولا في تطويرها ولا حتى في التأمل فيها، وبالتالي فنحن أشبه بالمشاهدين الذين يتابعون فيلماً سينمائياً، فهم لا يقومون بأدوارٍ في أحداثه كممثلين، ولا يكتبون نصه مثل ما يفعل السيناريست، ولا يُفسّرونه بالإخراج ولا يقومون بتوليفه كمونتاج ولا أي شيء آخر. لذلك فهم يدفعون قيمة التذكرة ليشاهدوا وقائعه لقتل الوقت أو الاستمتاع بالمشاهد لا أكثر.
مقال رائع
أحسنت
وهكذا
وهكذا يبدع العالم في كل مجالات العلوم التي تخدمه الا المسلمون الاعراب فانهم يبدعون في قطع الرؤوس و قتل النفوس لانهم امة لا خير يرتجى منها حيث ان دينها الاموي يمنعها من التفكير و الابداع و التقدم
انا ايضاً من المنتظرون المشاهدون
اريد ان اعرف متى موعد العرض
ما تحتاج موعد
ما تحتاج موعد لأنك عايش العرض على طول
زراعة الرؤوس ..
انا ضننت من العنوان بانك تتكلم عن زراعة الشعر اللي هابة بين الشباب الصلعان .. مانلومهم لكن موضوعك يستحق القراءة ..
شكرا أستاذي على هذا المقال الرائع
بات ينطبق على العرب هذا البيت
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم
مقال ممتع
شكرا للكاتب على المقال و بالفعل العرب اصبحو مجرد " مشاهدي افلام" الامة الانسانيه . نتمنى ان لا يدوم هذا الحال و نرتقي كما ارتقت باقي الشعوب. عمليه نقل رأس من جسد لأخر واضح انها شيئ مشوق و يتحدى ارتباط الروح بالجسد فهل تنتقل الروح مع الرأس ام تفارق جسده ... انتظر نتيجه العمليه و اتمنى معرفه موعد العمليه
الحلم أولاً
يجب ان يحلم الانسان أولاً. . ثم يناضل لتحقيق حلمه