للتكافل الاجتماعي والتعاون ضرورته لاستمرار المجتمعات والأفراد في حال من التجانس والتخفيف من العبء. مثل ذلك التكافل/ التعاون، هو ما يمنح الحياة قدرتها على أن تكون ذات جدوى وسهلة. الإنسان وسط ذلك يكون قادراً على الفعل والدفع بالعملية الإنتاجية، ومن ورائها، الدفع بإنتاج العلاقات والأخذ بها نحو مزيد من التعميق والتجذُّر والتماسك.
في كتابها «التويزة... ظاهرة اجتماعية فنية علمية... دراسة في علم موسيقى الشعوب»، الصادر عن مجلة «الثقافة الشعبية» في مملكة البحرين، لعدد أبريل/ نيسان 2015، تقدم الباحثة الزازية برقوقي، للقارئ العربي عموماً، والخليجي خصوصاً، شكلاً أو صورة من صور التجمع المهني والفني الذي يقوم على إنجازه مجموعة من الأشخاص، في موقف تطوُّعي، يستفيد منه أحد عناصر المجموعة.
الاستعراض سيقتصر على الجانب النظري، دون الدخول في تفصيلات تتعلق بالنماذج الموسيقية والغنائية المرافقة لتلك العملية، التي عمدت الكاتبة إلى تحليلها في ملحق خاص في الكتاب، باعتبارها مادة فنية، ربما لا تعني القارئ هنا؛ إلا أن الجانب النظري من «التويزة» له بعض من ملامح وأشكال الممارسة في مجتمعات دول الخليج العربية قبل عقود من تفجُّر الثروة النفطية، والتحولات التي طرأت على طبيعة تلك المجتمعات، ومن ثم العلاقات في ما بينها، واندثار كثير من أوجه وصور تلك العلاقات التي تتسم بالتعاون والتكافل.
شبكة العلاقات
ربما نحتاج للعودة إلى بورديو في تعريفه لآلية العلاقات التي تسم المجتمعات القبلية والريفية؛ لنمهّد إلى أحد المداخل لاستعراض الكتاب.
بورديو يقترب من ذلك التعريف؛ إذ يرى أنها «تتكوَّن من شبكة من العلاقات والتفاعلات الداخلية التي تشكِّلها جملة من العادات والتقاليد والنظم المتوارثة والممارسة لدى هذه الفرق والمجموعات».
وفي تناول غير متدرِّج في مفتتح الكتاب، تناولاً لتلك الممارسة في مجتمعات موضوع الدراسة، تُوضح برقوقي أن «التويزة» هي ظاهرة اجتماعية تعبِّر عن حالة تضامنية موسمية بين أفراد المجتمع القبلي، ويمكن لـ «(التويزة)، أن تكون في شكل تجمُّع نسائي في إعداد الصوف وقردشته وغزله وكذلك نسجه».
برقوقي لا تدخل مباشرة في تعريف «التويزة»، وكأنها وضعت كتابها لمجتمعات تتكون منها دول المغرب العربي. في منطقة الخليج، ربما هم قليلون الذين سمعوا بتلك المفردة وما ترمي إليه ومدلولاتها وطبيعتها. وفي تفصيل للتعريف تأخذنا برقوقي إلى الأصل والبيئة، بالقول «تختلف تسمية التويزة من جهة إلى أخرى، ومن نشاط إلى آخر، ويُعيد بعض الرواة مصطلح التويزة إلى السكَّان البربر؛ وخاصة أن هذه الظاهرة منتشرة في البلاد التونسية، وكذلك في بقية أقطار المغرب العربي. ويرجع مصطلح التويزة إلى لفظة ويز البربرية، والتي تعني الإعانة والمساعدة، أما حرف (ت) فهو أداة التعريف لدى البربر».
إذاً فهي شكل من أشكال تماسك طبقات المجتمع فيما بينها، وتعطي دفْعاً لعملية الإنتاج التي لن تتوقف؛ وبالتالي دخول تلك المجتمعات التي تتبنَّى مثل هذا النمط من التعاون في عملية مستمرة من ذلك الإنتاج، وهي تبرز وتنتشر في المجتمعات التي من طبيعتها التعاون، وفيها بذور مثل ذلك التماسك والتكافل والترابط، لتأتي «التويزة» لتعمِّق منه. ويظل غالباً في الحياة القبلية والريفية، ويدخل ضمن دورة حياتها.
مرافقة الغناء لها
وتشير برقوقي إلى أن «التويزة» ترافق أنماطاً غنائية متنوعة تعمل عملها في تحقيق نوع من المعادل النفسي؛ وسط تلك النوعية من الأعمال. وتأتي تلك الأنماط الغنائية «معبِّرة عن حالات ذاتية مزاجية ساعة الأداء، وأحياناً أخرى في شكل تعبيرات جماعية تاريخية موروثة؛ قد تتعلق بإطار العمل ومادته، كما يمكن أن تتطرق إلى موضوعات غزلية وقصصية».
وعلى تعدُّد التناول والتعريفات، تنتقل برقوقي إلى مستويات من تلك التعريفات ضمن حال الاختصاص في «التويزة»، لتأخذ شكل تجمُّع مهني وفني يشترك في إنجازه مجموعة من الأشخاص بطريقة تطوعية، لفائدة أحد عناصر المجموعة، وتتشكّل التويزة بحسب نظام دورة الحياة البدوية الريفية، فتتواجد في كل المواسم الكبرى كالحرث والحصاد، وإعداد الصوف وجني الزيتون».
وتؤكد أنها «ترتبط بالنظام القبلي، وذلك طبقاً للعادات والتقاليد المتوارثة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية لهذه المجموعات البشرية».
دور التويزة كممارسة اجتماعية
في الممارسات التي تغدو جزءاً من نمط الحياة لدي أي شعب أو مجموعة بشرية، تُصبح بعض الممارسات مع مرور الوقت وكأنها معادل أو حافظ لعملية تنظيم تلك الجماعات أو الأفراد، وترى برقوقي أن التويزة «كغيرها من الظواهر التي يعتمد عليها التنظيم الاجتماعي المعروف بالقبلي، تلعب دوراً مهماً لتحقيق المعادلة الروحية والاجتماعية والاقتصادية لهذه المجموعات».
وبين الجهد المشترك الذي يتم بذله، لا يخلو الأمر من وسيلة صوتيه أو حركية للتغلب على المصاعب التي يمكن أن تظهر جراء ذلك الجهد المبذول؛ لذا فالحياة «تستوجب لهذه الأنماط البشرية جهداً مشتركاً ومتواصلاً للتغلب على المصاعب التي فرضتها البيئة الطبيعية، وأمْلتْها الحياة البدوية الريفية».
مستوى العلاقات الخاصة
تمثّل التويزة في المجتمعات البدوية والريفية، نافذة ومجالاً للتعارف والتقارب و «إنتاج علاقات تُتوّج بالخطبة والزواج»، ولأن تلك المجتمعات يتم فيها الزواج بالطرق التقليدية، البعيدة عن المباشرة في الاختيار، تتيح التويزة «دوراً مهماً وإطاراً ملائماً للاختيار، وذلك بحسب مقاييس معتمدة لدى هذه الجماعات، تتعلق بالنَسَب، ومدى قدرة الفتاة على العطاء في مثل هذه الأنشطة والأعمال، وتحظى الفتيات البارعات في الأعمال الفلاحية، وفي الأنشطة الحرفية النسيجية، بأحقية الزواج قبل غيرهن».
البعد الاقتصادي
علاوة على أن التويزة ممارسة اجتماعية، إلا أنها تحمل في طبيعة ممارستها، والهدف من التوجُّه إليها وإيلائها الاهتمام، بُعداً اقتصادياً، عبر أنشطة وأعمال مُحدّدة «فالبيئة والطبيعة التي تعيش فيها هذه المجموعات فرضت جملة من الممارسات مثل ظاهرة التويزة لتحقيق المتطلبات الحياتية كالملبس والمسكن والمأكل».
البعد النفسي
تُشير الباحثة إلى أن «التويزة»، تحظى بتحقيق جزء من المعادلة الروحية والنفسية للمجموعة؛ حيث تُمارس في التويزة عديد من الأنماط الفنية الشفاهية؛ وخاصة الغنائية منها والتي تساهم في الترفيه عن النفس، ودفع العمل وتناسي التعب. وبحسب محيي الدين خريف في كتابه «علم الاجتماع في ميدان العمل الصناعي»، فإن «المادة الشفاهية تتمثل انطلاقاً من التعريف العريض للثقافة في محفوظات الذاكرة الجماعية، وفي كل ما علق بهذه الذاكرة من جرَّاء أساليب العيش في مجتمع له تقاليد (العمران البدوي)».
في المحور الثاني من الكتاب، تتناول برقوقي التويزة باعتبارها ظاهرة فنية وعلمية، مشيرة إلى أن هناك تلازماً بين النشاط الفني والعملي في ظاهرة «التويزة»، باعتبارهما محور تشكُّل هذه الظاهرة، مبيِّنة أنه، على رغم تنوُّع مجمل أعمال التويزة واختلافها، إلا أنها تشترك كلها في الارتباط الوثيق بالفن والموسيقى.
المحبِّل
تحظى المواشي بأهمية بالغة في تلك البيئة الريفية والبدوية، باعتبارها مصدراً من مصادر تأمين حاجات ومتطلبات أفرادها، كما أن قيمة بعض الأشخاص قد تتحدَّد في بعض الأحيان بعدد الرؤوس التي يملكها من تلك الماشية.
وتُورد المؤلفة أنه في يوم المحبّل «تعد النساء المكان المخصص لجز الصوف بتنظيفه، وتوفي بكل المستلزمات، ثم تقوم بإحضار كانون البخور، وتطلق ثلاث زغاريد لما لهذه السلوك من دلالة رمزية».
وتوضح، أن نساء «التويزة» يتجمَّعن لهذا النشاط عادة في فصل الصيف، ويتمثل دورهن في إعانة المرأة، وتخفيف التعب عليها، وكذلك اختصار الوقت أمام ما ينتظرها من أعمال تتمثل في صناعة البيت والغطاء واللباس وغير ذلك.
تويزة السدو والنسيج
في ما يتفرَّع عن الصناعات التي يدخل فيها الصوف، يبرز النسيج، وبالأخذ بالأدوار التقنية للأعمال المرتبطة بالحياة القبلية، يكون البدء بالسدو؛ لتمر بمراحل عدّة، وصولاً إلى عملية النسيج.
وثمة طقوس واشتراطات لامرأة السدو؛ إذ تسعى المرأة في هذه المناسبة إلى الاستعانة بالنساء ذوات الدراية بالعملية، والتركيز على الحياة العامة لأولئك النسوة «فحسب الاعتقاد السائد، لابد أن تكون امرأة السدو ذات (بخت)، حيث لا توجد في حياتها عراقبل كبرى كعدم الاستقرار في حياتها الزوجية أو عدم الإنجاب، ولها من الخفة والمرح ما ينعكس على السدو حتى يكتمل على أحسن وجه ويكون مباركاً (...)».
وتتفرَّع عن العملية تلك مكوِّنات البيت (الخيمة)، ونسيج المفروشات والأغطية والملبوسات والبرنوس (اللباس الرجالي الأكثر انتشاراً في منطقة الهمامة، وتتم صناعته من أجود أنواع الصوف)، وكذلك الغرارة، وهي عبارة عن نسيج يصنع في شكل أكياس، تستعمل لتخزين عديد المواد، وخاصة الحبوب. وتختلف صناعتها من منطقة إلى أخرى، وذلك بحسب الألوان المستعملة، وأشكال الخطوط؛ علاوة على ارتباط ذلك بالأهمية التي تحظى بها الخيول والفرسان في تلك المجتمعات.
ولكل مرحلة من المراحل تلك أهازيجاها وأغانيها الشعبية وإيقاعاتها.
تويزة التصبيط
«وتسمّى أيضاً تويزة (التهريس)»، من خلال اشتراك عدد من النساء في عملية حصاد كمية من سنابل القمح أو الشعير، والقيام بتصبيطها لفصل الحبوب عن القش، ثم تصفيتها وتنقيتها للاستعمال، وتدخل العصيّ في تلك العملية، ويطلق على كل واحد منها «مصبط»، «وتتناول النساء هذه الأداة للقيام بنشاط يتطلَّب مجهوداً عضلياً وجسدياً كبيراً أنيط بعهدتهن دون غيرهن في تلك المجتمعات». ويصدر في «التصبيط» تناغم إيقاعي من خلال الصوت المحدث بأداة «المصبط»، والتقائها مع كومة السنابل بطريقة جماعية ومتناوبة، لكن هذا الصوت الإيقاعي يرافقه صوت غنائي بطريقة خاصة، يعبّر عن اشياء داخلية للمرأة، ولو بطريقة رمزية، ومنها:
يا شايبْ
يا عايبْ
يا قاعد للظلْ
لا تحصد لا تْجُرْ
آش لَزِّك
على الوعرْ
حتى تطيحْ
وتتكسرْ
تويزة الرحى
وهي من الأدوات التي لا يخلو منها مجتمع قبلي أو ريفي، وتتطلّب جهداً كبيراً في عملية طحن الحبوب، كما أنها من النشاط اليومي - تقريباً - بالنسبة إلى النساء في المجتمعات التقليدية، علاوة على أن الدقيق هو من المواد الأولية والرئيسة التي توفر أنواعاً من المأكولات. ووسط ذلك الجهد الشاق، تشير برقوقي إلى أن «المرأة قد تستنجد بمن يعينها على هذا النشاط العملي من الجيران والأقارب»، مُوضحة أن النظم والتقاليد في المجموعة حدّدت هذا النوع من النشاط، واختصَّت به النساء دون غيرها.
المعونة
احتوى كتاب برقوقي في محوره الثالث على تحليل موسيقي لأمثلة من التويزة، تضمَّن تعريفات لبعض أسماء الأدوات والآلات وما يدخل في صناعتها، وعمدت إلى اختيار نماذج غنائية، والطريقة المعتمدة لتحليل تلك النماذج، من جانبها الشعري، والقالب الشعري ومكوناته، وكذلك الجانب الموسيقي، ضمن مجموعة من الأمثلة، ملحقة ذلك بالتدوين الموسيقي وتحليله، والقالب اللحني، والمساحة الصوتية، والمسار اللحني، والانتقالات والدرجات المهمة، والخلايا الإيقاعية، والإيقاع اللفظي الشعري، وطريقة الأداء، وختمت كتابها بملحق للأغاني.
يُذكر، أن الزازية برقوقي، كاتبة وباحثة في علم الموسيقى من تونس. تحمل درجة الأستاذية في الموسيقى والعلوم الموسيقية. ماجستير الموسيقى وأثنولوجيا الموسيقي. تعمل على إنجاز أطروحة الدكتوراه.
التدريس برتبة أستاذ تعليم ثانوي بالمعهد الثانوي الحسين بوزيان بقفصة.
التدريس برتبة أستاذ مساعد تعليم عال بقسم الموسيقى بالمعهد العالي للفنون والحِرف بقفصة منذ العام 2013.
أنجزت عدداً من الأبحاث الميدانية، والمداخلات في العلوم الموسيقية والأثنوميوزيكولوجية والأنثروبولوجية، نشرت في المجلات العلمية المتخصصة، وهي من كاتبات مجلة «الثقافة الشعبية»، التي تصدر من مملكة البحرين.
العدد 4616 - الإثنين 27 أبريل 2015م الموافق 08 رجب 1436هـ