في مدينة صغيرة جنوبي بيروت لا تدخر فوزية جهدا في الحفاظ على نظافة شقتها المتواضعة رغم جدرانها المتداعية والنوافذ المغطاة بالبلاستيك.
يعيش مع فوزية في الشقة المكونة من ثلاث حجرات للنوم 12 شخصا آخرين من بينهم أطفالها الخمسة. والجميع مثلها لاجئون من سوريا.
كل يوم تقريبا تستقبل فوزية رسائل على الهاتف المحمول من شقيقتها الأصغر رباب التي تعيش في ألمانيا.
هربت الشقيقتان من وطنهما قبل ثلاثة أعوام ويصور تباعدهما ما حل بملايين السوريين ممن اضطرتهم الحرب الأهلية الدائرة منذ أربع سنوات للخروج من بلدهم.
فرباب أرملة تبلغ من العمر 42 عاماً وهي أم لاثنين في سن المراهقة أصبحت من بين بضعة الاف من السوريين الذين اختارهم بلد أوروبي غني لإعادة توطينهم. ويعيش الثلاثة في منزل مريح ويحصلون على تعليم مجاني وتأمين صحي.
أما فوزية التي تكبرها بعشر سنوات فكان مصيرها مختلفا. فهي في لبنان بين أكثر من مليون سوري ليس لهم حق قانوني في العمل ولا يحصلون على مساعدات تُذكر. وقالت إنها لا تستطيع هي وأولادها العودة لسوريا فقد أبلغها جيرانها في سوريا أن واجهة المبنى الذي تقع فيه شقتهم قد نُسفت.
قامر آلاف غيرهم من السوريين بدفع بضعة آلاف من الدولارات لمهربي البشر من أجل ركوب سفن مُهترئة لتعبر بهم إلى حياة أفضل على الجانب الآخر من البحر المتوسط.
وتقول منظمة الهجرة الدولية إن 42323 مهاجرا من سوريا كانوا من بين 170 ألف مهاجر وصلوا إلى إيطاليا بحرا في العام الماضي. وتقول ايطاليا إن حوالي 2000 مهاجر لاقوا حتفهم في البحر منذ بداية العام الجاري.
وتوضح بيانات الأمم المتحدة إن فرص حصول لاجيء على إعادة التوطين رسميا في بلد غني مثل ألمانيا ضئيلة تبلغ نحو 0.5 في المئة.
ويعيش نحو 90 في المئة من أربعة ملايين لاجيء سوري في لبنان وتركيا والأردن. وتصف الأمم المتحدة أزمة اللاجئين السوريين بأنها أسوأ أزمة للاجئين منذ الحرب العالمية الثانية.
وقد وعدت ألمانيا وكندا أكثر بلدين سخاء بين الدول الغنية باستيعاب 30 ألف و11300 لاجيء على الترتيب لكن هذا لم يتحقق حتى الآن. وقبلت بريطانيا التي تدعم مقاتلي المعارضة السورية 143 لاجئا. أما روسيا التي تؤيد الجيش السوري واليابان صاحبة ثالث أكبر اقتصاد في العالم فلم تقبلا أحدا من اللاجئين.
وعموما تقدر المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن واحدا من كل عشرة لاجئين سوريين في المنطقة مثل رباب يحتاج لإعادة توطينه. ويمثل ذلك 400 ألف لاجيء.
وطلبت المفوضية من الدول الغنية المساعدة في إعادة توطين ثُلث هذا العدد أي حوالي 130 ألفا فيما بين عامي 2013 و2016. ووصف مسؤول بالمفوضية هذا الهدف بأنه "طموح". وقال المسؤول إن طلب إعادة توطين 400 ألف لاجيء طلب غير واقعي.
كما وعدت الدول الغنية بتقديم أموال. لكن الأمم المتحدة تقول إنها لم تتلق سوى 19 في المئة من مبلغ أربعة مليارات دولار الذي طلبته.
وهذا يضع أمثال فوزية أمام خيار صعب.. فإما أن تشق حياتها في لبنان أو تعود أدراجها للحرب أو تغامر بعبور البحر.
ولفوزية مثل رباب عينان زرقاوان وصوت رخيم به بحة وهي تشعر بسعادة غامرة لأن المقام استقر بأختها الأصغر في اوروبا.
وقالت فوزية "الحمد والشكر لله ان دائما هي مبسوطة."
وكانت علاقة حميمة تربط بين الشقيقتين في صغرهما حتى أن أسرتهما كانت تعتبرهما أمينتين على الأسرار. وقالت فوزية إن الاتصال المنتظم بينهما اليوم نعمة ونقمة في آن واحد إذ أنه يكشف عن الاستقرار الذي تتمتع به رباب وقد لا تعرفه هي.
وقالت فوزية "بحكي معها هي بتكون خارجة تسوق بتقضي أغراض لبيتها، مرتاحة قاعدة بالبيت ولادها عم بتروح مدارس. مرتب مأمن متوفر. يعني الحمد لله انه ارتاحت ما عاد في ها العناء."
بدأت الأختان رحلة الهروب من الحرب عام 2012. هربت رباب أولا من بيتها حيث كانت تعيش في مدينة حمص التي عمها الدمار الآن. وبعد بضعة أشهر هربت فوزية التي كانت تعيش في منطقة زراعية وسط بساتين خارج دمشق.
ومثل كثير من السوريين لجأت الاثنتان في البداية للاقامة مع أقارب لهما في سوريا ثم نفد ما لديهما من مال واتسع نطاق الحرب.
اتجهت رباب إلى لبنان. في البداية رفض المسؤولون السماح لها بالدخول واضطرت للرجوع بابنتها وابنها إلى دمشق لاستيفاء الأوراق. وأثناء وجودها في دمشق أُصيب الابن بجروح في انفجار.
أما فوزية فثابرت. وسيطر مقاتلو المعارضة على المنطقة وردت الحكومة بغارات جوية. وفي وقت لاحق من ذلك العام أصيبت المنطقة بصواريخ تحتوي على غاز السارين وهو من غازات الأعصاب.
وبنهاية عام 2012 كانت الشقيقتان قد عبرتا إلى لبنان.
وعلى النقيض من الحال في تركيا والاردن اللذين يستضيفان نصف اللاجئين السوريين لا توجد مخيمات رسمية في لبنان. ورفضت فصائل مختلفة في الحكومة السماح للامم المتحدة ووكالات المساعدات الأخرى إقامة المخيمات خشية أن يكتسب وجودها صفة الدوام.
ويعيش كثير من اللاجئين في بيوت مستأجرة أو مع عائلات أخرى. وتتهم وسائل الاعلام اللبنانية وبعض الشخصيات السياسية اللاجئين بإيواء متشددين اسلاميين. ويقول آخرون إن اللاجئين يستحوذون على الوظائف ويقبلون أجورا منخفضة ويشغلون أماكن العلاج في المستشفيات.
واستحدث لبنان هذا العام قواعد جديدة تمنع اللاجئين السوريين من العمل.
عاشت أسرة رباب في مرآب رطب تفوح من أركانه رائحة الوقود دون مياه ودون كهرباء. وقالت إن "الحياة أصبحت مستحيلة". وكانت قد سجلت أسرتها لدى الأمم المتحدة كلاجئين لكنها كانت تشعر بأنها لا تتمتع بأي حقوق.
أما فوزية فكانت أفضل حظا. فقد وجدت هي وزوجها النحيف ذو الشارب الفضي الكثيف عملا في التخلص من الحشائش في حقول أحد المزارعين.
وانصب أمل رباب الوحيد في إعادة التوطين على مفوضية الأمم المتحدة. وتقول المفوضية إنها تختار الناس بناء على درجة سوء حالهم بما في ذلك من تعرضوا للتعذيب والعنف والنساء والبنات المعرضات للخطر وكبار السن والمرضى والمعاقين.
ولأن رباب أرملة تعول أطفالا انطبقت الشروط عليها. وفي فبراير شباط عام 2014 وقع عليها الاختيار.
وتلا ذلك مقابلات على مدى أسابيع ثم تقدمت في نهاية المطاف بطلب للحصول على تأشيرة للسفر إلى ألمانيا وأيدت المفوضية الطلب. وفي 18 نوفمبر تشرين الثاني الماضي سافرت أسرة رباب إلى مدينة فلزبرج الصغيرة على الحدود الفرنسية.
وأصبح لرباب شقة مفروشة أرضياتها من الخشب وجدرانها حديثة الطلاء. وأمامها أشجار في الخارج وكنيسة قديمة على تل. ومن خلال نوافذ الشقة تستطيع رؤية ملعب وحديقة أزهار أنيقة لدى الجيران.
وقالت وهي تجلس إلى مائدة في مطبخها الذي طليت الخزانة فيه باللون الأزرق "احنا من أول ما وصلنا وحطينا اجرنا (قدمنا) بالمطار سجلنا يوم ولادة جديد لالنا."
وتعمل ابنة رباب ذات التسعة عشر ربيعا على تحسين لغتها الألمانية وتريد أن تصبح صحفية. وكانت تجلس قبالة رباب وهي ترتدي صدرية من قماش قطني ثقيل مع شقيقها البالغ من العمر 16 عاما. وبينما كانت الأم تتحدث كان الاثنان يقلبان الصفحات على جهاز كمبيوتر محمول وهاتف محمول.
وقالت رباب "وقت عم تجيهم فرصة للسفر (السوريين) هي بمعنى يصير في عملية زرع حياة جديدة ومستقبل جديد."
وفي لبنان تستخدم فوزية آلة حياكة قديمة من نوع سنجر لحياكة الملابس للاجئين الآخرين. وقالت إن ايجار شقتها في الدور الرابع يبلغ 300 دولار شهريا. وأضافت أنها تستطيع بالكاد تدبير ثمن الدواء.
وتتمنى فوزية لو استطاعت اللحاق بشقيقتها وتقول "كانت فرصة لأولادي ليرحلوا".