منهِكَة هي متابعة حائزة «نوبل» في الآداب العام 1993، توني موريسون، بذلك التنويع الواقعي والغرائبي في أعمالها الروائية. في تشريحها وتفكيكها الذهنية التي قادت عقوداً من التمييز العنصري. بذلك الفضاء المفتوح على الأسئلة، وأيضاً الثقة في ما تذهب إليه من افتراضات واحتمالات.
قالت لمحررة الفنون في صحيفة «التلغراف» غابي وود: «إن العداء والعنصرية يوجدهما صنَّاع المال». لأنهما يصنعان المال للذين يحرصون على إنتاجهما في المحيط الذي لا يريدون له استقراراً؛ وليس من مصلحتهم أن يكون فيه أي نوع من الاستقرار.
في أحد أعمالها الأولى «المحبوبة» قصة امرأة سوداء قتلت ابنتها الوليدة لئلا تعيش في عالم يُهيمن عليه البِيض. تلك القطعية في الخيارات لأبطالها، لا تأتي بمحض المصادفة. ليس لأنهم من الهشاشة بمكان بحيث عليهم أن يغادروا العالم بتلك البساطة التي يُمكن تخيُّلها. إنه خيارهم في الحياة كما يجب. الحياة بكرامة ومسئولية. ولن تكون هنالك مسئولية من دون كرامة!
في أحد لقاءاتها عرَّجت على سيرة أمها وعلى لسانها، في الحكايات التي كثيراً ما رأت أن كثيراً منها غير واقعي، وذلك يعني أن جزءاً من ذلك الكثير هو في الصميم من الصدق والواقعية، في الاستهداف الذي طال العرق الذي تنتمي إليه. أمها التي تعشق المسرح كانت تتعمَّد «الجلوس في الأماكن المخصَّصة للبيض فقط. وعندما عُلِّقت لافتات على الجدران تُهدِّد السودَ الذين يجلسون في أماكن البِيض بالطرد، كان من عادتها تمزيق تلك اللافتات».
صحيفة «التلغراف»، نشرت لقاء أجرته غابي وود، يوم الأحد (19 أبريل/ نيسان 2015)، هنا أهم ما ورد فيه، مع ملاحظة التصرف في جانب من الهوامش والإحالات التي لم يأتِ عليها الحوار، ولم ترد في ثنايا تقرير المحررة.
حرج تجاوز جائزتين لها
توني موريسون هي من دون شك، روائية من طراز عالمي. عملها كمُحرِّرة، قُوبل بالقليل من الاهتمام. عملت في «راندوم هاوس» لمدة 20 عاماً، وتركته في العام 1983، فقط قبل أن تخطِّط لكتابة روايتها «محبوبة» التي حازت جائزة بوليتزر. الرواية مثَّلت حرجاً نوعاً ما في تاريخ موريسون الإبداعي؛ حين تمخَّض تحكيم جائزة الكتاب الوطنية، وجائزة النقاد الوطنية عن استبعادها؛ الأمر الذي دفع ببعض الكتَّاب إلى رفع أصواتهم وأقلامهم احتجاجاً على ذلك الموقف والنتيجة.
في شقتها بمانهاتن، وأنا أسألها عن الطرق التي قد تُغيِّر الأدب الأميركي، بادرت بالقول إنها «كان لها دور في ذلك». ولكنها لم تشر إلى روايتها. «قلت: لا أستطيع السير، ولديَّ أطفال صغار»، وهي تروي لي. «عندما ذهبتُ إلى النشر، فكَّرتُ، أن أفضل ما يمكن القيام به هو نشر أعمال أولئك الذين هم هناك، مثل أنجيلا ديفيس، هيوي نيوتن - والأدب عموماً. وليتم السماح بتحريره من قبل شخص يفهم اللغة، ويفهم الثقافة».
كان أحد كتب موريسون قد صدر عن «دار راندوم» في تلك السنوات التي عملت معها، وكان سيرة ذاتية للملاكم الأسطورة محمد علي. «الأعظم: قصة حياتي» في العام 1975 وكانت مُشْرفة على التحرير، واعتُبر في تقدير عدد من النقَّاد بأنه واحد من «أكبر المساهمات في أدب الرياضة، ربما أكثر من أي وقت مضى».
كانت الأمور بين موريسون وعلي ليست دائماً تمضي بيسْر. «كان علي لا يجيب حتى على أسئلتي»، كما تقول. «أكون في غرفة مليئة بالرجال. وكانوا يقولون: يا إلهي، انظر إلى يديه. أوه. انظر إلى عنقه. أوه ... وكانوا لا يفعلون أي شيء سوى القول: (نحن نحبُّكَ)». وإذا سألت «علي» سؤالاً، سيتجاهلني ليردَّ على واحد من الرجال.
عليٌّ يدفع إيجار سيِّدة عجوز
ثم تذكرت موريسون قصة سيدة يهودية عجوز على الجانب الغربي، وكانت على وشك أن تُطرد من شقتها، وكيف ساعدها عليٌّ في دفع الإيجار. «اعتقدت، أن علياً يُبدي احتراماً للنساء المسنَّات».
كانت موريسون في الرابعة والأربعين من عمرها في ذلك الوقت؛ وتقوم على تربية اثنين من أبنائها، وقد كتبت روايتين - «أكثر العيون زرقة» و «سولا». «حين تقدَّمتْ بي السن، التقيته. قلت له: علي، انهض من هناك فلديك موعد». وانتصب واقفاً. وقد فعل كل ما قلته بعد ذلك». عندما تكون في شركة توني موريسون، لا مكان للبس في المفاهيم عمَّن هو المسئول.
شعرها الرمادي الطويل المعقود خلف رأسها، يبدو كما لو أنه قد تم نسجه من الحرير والفولاذ. وعلى رغم أنها في الرابعة والثمانين عاماً، ويجعلها الألم تجر قدميها على الأرض، إلا أن الضعف ليس الكلمة التي من شأنها أن تكون ملازمة لها. صوتها يمكن أن يكون ناعماً وينبئ عن فتاة صغيرة في السن، تلعب بالفكرة - أي فكرة - كما لو أنها تحملها لتصل بها إلى حيث الضوء، ولكن جرْسها الطبيعي هو أقل من ذلك، أكثر دفئاً، مع إيحاء خافت بأن الرعد يسكنها.
«سْلَيد»... وجوه من دون أفواه
على جدران شقَّتها الجديدة (انتقلت لأن شقتها القديمة كانت تحوي عدداً كبيراً من السلالم) العديد من اللوحات التي رسمها ابنها، سْلَيد، الذي توفي في 22 ديسمبر/ كانون الأول 2010، بعد معاناة من سرطان البنكرياس. «كان يرسم هؤلاء الناس من دون أفواه»، مشيرة إلى أحادية اللون بصور ملطَّخة فوق الموقد. «ذات مرة جاءت فتاة هنا، نظرت إلى تلك اللوحة واغروْرقت عيناها بالدموع. كانت قد تعرَّضت للتحرُّش وهي طفلة، وشيء هناك في اللوحة، مع عجز عن الكلام، وعيون حزينة، استولى عليها بطريقة عميقة».
اليوم ونحن نلتقي، موريسون، تبدو في حالة مزاج للضحك - في بعض الأحيان على نفسها - ولكن على صعيد أكثر جدية، وبمنطق به نوع من القسوة، وكأن السخرية هي ما يستحقه معظم ذلك. لقد جئت لأسأل عن آخر رواية لها «God Help the Child»، التي بدأت في العام 2008، وعادت إليها عندما قرَّرت أن المذكرات التي تعاقدت على كتابتها لم تكن الشيء الذي تريد فعله.
في الكتاب، امرأة سوداء جداً، تمت تربيتها من قبل أمِّها التي تعتقد بأنها قبيحة. تحوَّل سواد بشَرَتها إلى مصدر للقوة. ولكن كل شيء يبدو ظاهرياً، وعلى امتداد الرواية تجد نفسها تنكمش. هنالك فقدان للأنوثة، إلى أن تتمكَّن من التعلُّم كيف يمكنها الترفُّع عن المظاهر. بجانب مسألة «مزيَّات البشَرة». كل شخصية فيها متأثرة عاطفياً بإساءة معاملة الطفل.
الرِقُّ وقفزات الاقتصاد
هناك رؤية مُحدَّدة للعنصرية، لا تدخل بقوة في قضايا الداخل ولكنها واضحة تماماً. طالب اقتصاد في الدراسات العليا، يُصبح واحداً من أطراف النزاع؛ لأنه يجد فشل قسم الدراسات الإفريقية الأميركية في معالجة اقتراح بسيط، أن «معظم الإجابات الحقيقية المتعلقة بالعبودية، الإعدام خارج نطاق القانون، العمل القسري، وما يعرف بالمزارعة، وهي المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها، ومعناها إعطاء الأرض لمن يزرعها على أن يكون له نصيب بجزء شائع، العنصرية، جيم كرو، العمل في السجون، الهجرة، الحقوق المدنية، وحركات الثورة السوداء، كل ذلك يتعلَّق بالمال».
هل هذا ما تعتقده موريسون؟ «أنا أعرف ذلك»، كما تقول. «العرْق هو تصنيف الأنواع. ونحن عرق إنساني، ضمن حقبة زمنية. ولكن الشيء الآخر - العداء، والعنصرية - هما من صُنَّاع المال. كما أنه يُوفر بعض الارتياح العاطفي للأشخاص الذين يحتاجون إليه. وكما تقترح التسمية على طريقتها «الرِّق»، الذي نقل هذا البلد قريباً من الاقتصاد في أوروبا الصناعية، بعيداً، في قفزات أكثر مما كان يمكن أن يكون عليه». و «حتى الآن»، قالت مشيرة، إلى «أنهم لا يتوقفون ويتراقصون في وول ستريت، وهو المكان الذي ينبغي عليهم أن يقصدوه». في الصيف الماضي حضرت موريسون «مهرجان هاي» ولامستْ على مدى ثلاثة أيام، في سياق تلك الأحاديث، هذه المسألة عدَّة مرات، درستْها بإتقان؛ لا بغوغائية؛ كما لو أنه لا شيء هناك يُمكن أن يقال بشكل قاطع. سؤال العِرْق «ليس ثابتاً. عليكَ أن تسبح فيه قليلاً».
التساؤلات المُضادَّة
منذ ذلك الحين، تم خنق إريك غارنر بواسطة رجال الشرطة البِيض في جزيرة ستاتين، وتم إطلاق النار على مايكل براون من قبل رجال الشرطة البِيض في فيرغسون، وكذلك إطلاق النار على والتر سكوت من قبل شرطي أبيَض في ولاية كارولينا الجنوبية. قالت: «ظل الناس يردِّدون: نحن بحاجة إلى أن نُتيح فرصة الحديث عن العِرْق، والآن خصوصاً «أريد أن أرى شرطياً يُطلق النَّار في الظَهْر على مراهق أبيض أعزل»، واختتمت بالقول: «أريد أن أرى رجلاً أبيض دِينَ باغتصاب امرأة سوداء. ثم عندما سألتِني: (هل تجاوز الأمر الحدَّ؟)، سأقول نعم».
توني موريسون، التي كانت تُعرف وقتها بكلويه وفورد، نشأت من دون أن تفهم أي شيء من ذلك؛ في المدينة الصناعية الصغيرة في لورين بولاية أوهايو، مع القصص التي بدتْ غير واقعية، تلك التي كان يرويها والداها الجنوبيان.
كان والدها عامل لحام في أحواض بناء السفن. وكان معظم جيرانهم من المهاجرين الأوروبيين، وفي الكتاب السنوي الخاص بالمدرسة الثانوية الذي احتوى صورتها، كان هناك اثنان فقط من الطلاَّب السُود الآخرين.
هل شهد والدها حالة إعدام خارج نطاق القانون عندما كان عمره 14 عاماً؟ هل كان لديهم حقاً نوافير مياه تفصل البِيض عن الملونين في جورجيا؟ فقط عندما ذهبت إلى جامعة هوارد، وهي جامعة شهيرة وتاريخية للسود في واشنطن العاصمة، بدأت تُدرك كيف كانت تسير الأمور. وخارج الحرَم الجامعي، في أواخر أربعينات القرن الماضي، كانت المدينة معزولة. سرقت موريسون واحداً من الألواح الخشبية التي كانت تُستخدم للحفاظ على السود معزولين في الجزء الخلفي من الحافلات، وأرسلته إلى والدتها كتذكار قاتم.
أن تكون أسْوَدَ في الجنوب
أمضت صيفين في جولة مع الفرقة المسرحية التي علَّمتها أكثر من غيرها. قالت: «كانت هناك مضايقات درامية ومسرحية حقاً في كونك (أسوَد) في الجنوب». يقوم أعضاء هيئة التدريس بالترتيب لبقاء الفرقة في مكان ما، وغالباً ما سيجدون، كما تقول، إنه «لم يكن مكاناً بذلك الجمال. ربما كان فيه شيء من الجمال، في جانب منه». واحد من أعضاء هيئة التدريس يذهب إلى كابينة الهاتف مُقلِّباً الصفحات الصفراء في دليل الهاتف كي يجد اسم كنيسة تكون من المرجَّح إفريقية أميركية.
لم يكن القس ليستمع إلى حكايتهم؛ ويطلب منهم الاتصال به ثانية بعد 15 دقيقة، وهو الوقت الذي من المفترض أن يعثر لهم فيه على منازل كي يُقيموا فيها. «ذلك ما أتذكَّره»، قالت ذلك موريسون بحزن.
ونتيجة لذلك، بدأت موريسون تشعر بالتقارب... بالسحر. ما ظهر كان مشروعاً مهنيَّاً طويلاً؛ بحسب تعبيرها «لتحويل الأنظار». مشيرة إلى أنها لا تُريد أن تكتب من أجل إقناع الناس البِيض، كما كان هو الحال مع دعاة إلغاء الرقِّ، فريدريك دوغلاس، أو سليمان نورثوب.
إنها ليست مهتمة بافتراض نظرة عالمية لشخص أبيض، مثل الكاتب في منتصف القرن العشرين رالف إليسون، وكما تقول: «غير مرئيٍّ لمن؟» استناداً إلى روايته الشهيرة «الرجل الخفي».
وأكدت، أنها لا ترغب في الانضمام إلى صرخات القوة السوداء. عندما تحوَّلت الثورية في ستينات القرن الماضي إلى حقبة السبعينات، أرادت القول: «قبل أن نصل إلى (الأسْود جميل) أودُّ أن أذكَّرك بما كان عليه الحال من قبل، عندما كان مُميتاً؟»
الأثر هو اللغة
كتبت أيضاً من وجهة نظر الفتيات الصغيرات السوداوات في بلدها في أول كتابين، من رحمة العبيد في القرن السابع عشر، عن طفلة قتلت على يد والدتها لإنقاذ حياتها من المعاناة في روايتها «المحبوبة». إنها تجمع قصصاً مجازية من جدَّيْها مع الحقائق على الأرض، وصلت إلى ما وصفته «مقاومة الخيال». كي تروي حكاية، عليك التقاط أطرافها، ذلك ما اقترحَتْه ذات مرة، مُقارنة مع رواة القصص، هانسيل وغريتل. «أمهاتهم لا تُرِدْنَهم. إنهم يتركون قليلاً من الأثر. ذلك الأثر هو اللغة».
بكلمات بسيطة، وإيقاعات هي في بعض الأحيان تعويذية، ومن خلال التصرُّف الذي هو على حد سواء حقيقة في الحياة، وسحري في عادات الفكر المتمخِّض عنه، نقلت موريسون سلسلة من وجهات النظر السوداء، ألقيت على قرائها في العالم، ممن لم يكونوا قد التقوا كل ذلك سابقاً في الخيال، وإعادة ترتيب التاريخ الأميركي عن طريق اختيار الناس من خلال من أوصل ذلك لهم. يذكر أن موريسون ولدت العام 1931 في بلدة لورين بولاية أوهايو. ظل والدها على قناعته باستحالة التعايش بين البِيض والسُود. وكان للتاريخ الدموي والعنصري أثره في تلك القناعة مثله، مثل ملايين من الإفريقيين من أصل أميركي.
في امتداد تاريخها العائلي؛ هناك مثقفون، وساعدها ذلك في العودة إلى ذلك التاريخ والاغتراف منه؛ إذ كان جدُّها عازفاً موسيقياً؛ فيما كانت أمها مغنية في كنيسة الحي. اطلعت على كلاسيكيات الأدب الفرنسي والانجليزي والروسي، وتلقَّت تعليمها العالي في الإنسانيات والآداب في جامعتي»هاورد» و «كورنيل».
انتقلت العام 1967 الى مدينة نيويورك؛ حيث عملت محرّرة رئيسية لأعمال كتَّاب أميركيين من أصل إفريقي من بينهم هوي نيوتن، وأنجيلا ديفيز.
بعد حصولها على جائزة نوبل في العام 1993 قالت المؤسسة المانحة للجائزة في تقريرها: «تميزت روايات موريسون بقوة البصيرة، والمضمون الشاعري الذي يمنح الواقع الأميركي ملامحه الأساسية».
من بين أهم أعمال موريسون، إضافة إلى ما تم ذكره وتناوله: «سولا» (1974)، «أغنية من سليمان» (1977)، «القطران الطفل» (1981)، «موسيقى الجاز» (1992)، «الجنة» (1999)، «الحب» (2003)، و «ألف رحمة» (2008).
العدد 4614 - السبت 25 أبريل 2015م الموافق 06 رجب 1436هـ