يزداد وضع منطقتنا تعقيداً، بسبب حروب جماعية تدمّر البنى التحتية لأوطان بكاملها. فمنذ ثورات الربيع العربي وما لحقها من ثورة مضادة، انكشفت هشاشة الوضع العربي. وقد مثّلت «عاصفة الحزم» نقطة تحوّل في التعامل مع جانب من الحروب الدائرة في المنطقة، بينما مثّل الإعلان عن توقّفها تعبيراً عن أفق قد يسمح بتفادي التورّط في حرب استنزاف مدمّرة تؤدي إلى كارثة إنسانية في اليمن.
إن مشكلتنا الأعمق التي تسبّب الحروب الأهلية التي تعاني منها دول عربية عدة، تتلخّص في سياسة الدولة العربية الريعية التي تنتج بطبيعتها التكوينية الأزمات. فالدولة الريعية في منطقتنا، تمتلك شرعية سياسية لأسباب عائلية ووطنية وتاريخية مرتبطة ببيعة ومهارة سياسية وصفات قيادية للمؤسسين. كما وتمتلك الدولة الريعية شرعية، بسبب تأسيسها لمرحلة الاستقلال العربي والتخلّص من السيطرة الأجنبية المباشرة. لكن هذه الدولة عبء على نفسها وتعاني من مشكلات سرطانية تؤثر في توازنها، وتفتح الباب لحروب أهلية ولبروز الدول الفاشلة.
الدولة الريعية العربية، على اختلاف الدول العربية (ملكية أو جمهورية)، بدأت منذ بدايات هذا القرن، الدخول في عملية تراجع تدريجي لرأسمالها السياسي وزخمها الأولي، وقد وقع التراجع بسبب عجزها عن التعامل السياسي والبنائي مع واحدة من أصعب مسائل التنمية السياسية: القدرة على دمج فئات المجتمع الجديدة (الشباب والطبقة الوسطى والفئات الشعبية المهمّشة). ففي الدولة الريعية، لا صوت حقيقياً لفقراء الناس ومهمّشيهم، ولا صوت للعامة وللتكوينات الاجتماعية الجديدة، بينما تبقى السيطرة لأصحاب النفوذ السياسي والمالي في أعلى الهرم.
إن تراجع هرمية الدولة الريعية العربية وتآكلها، عملية تاريخية تصل اليوم إلى مرحلة شبه حاسمة بسبب ثورات الربيع العربي، والثورة المضادة، وما سيلي كل هذا من تحديات.
سياسة الريع تعني أنه من أجل استيعاب المجتمع في بنيان الدولة، لابد من توظيف نسبة كبيرة من السكان في القطاعات الحكومية، بما فيها الأمنية والعسكرية والمدنية، بما يفوق كل منطق سياسي واقتصادي. الريعية تضخيم للدولة ولوظائفها وتحويلها بيروقراطية تمتصّ عافية الوطن، وتقوم باقتناء كل عامل وموظّف وتعبير محلي. إنها دولةٌ تمتلك شعباً، وليست دولةً تمثّل شعباً.
ولتنجح الدولة الريعية، تمعن في توزيع الأموال والمناصب والفوائد والامتيازات بدرجة عالية من العشوائية، لمن تجده متناغماً مع خطابها ورؤيتها، وداعماً لإعلاناتها مهما كانت وقتية وقصيرة الأمد.
وهناك تناقض في مسألة الريعية. فالدول العربية الفقيرة التي لا تمتلك المال الوفير، تمارس الريعية من خلال سعيها المبالغ به إلى الحصول على مساعدات دائمة من الدول الغنية، وذلك بحجة الاستقرار. في الدول الريعية الفقيرة، تكون نسب القمع والتعسّف أعلى بسبب عدم قدرة الريع على تغطية كل الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية. أما في الدول الريعية الغنية ذات الشرعية التاريخية العائلية، فالوفرة المالية تسمح للريع بعبور الطريق، بينما يقبل المجتمع لفترة من الزمن بقاعدة الرعاية المالية مقابل التنازل عن المشاركة السياسية.
من جهةٍ أخرى، يتحوّل انتفاخ الدولة نتيجة بيروقراطيتها، إلى سعي محموم في بعض الحالات للتخلّص من أوزانها الزائدة، من خلال بيع أجزاء منها للقطاع الخاص الذي كثيراً ما يكون الشكل الجديد للدولة الريعية. لهذا، تبيع الدولة مؤسساتها إلى المقرّبين والمحسوبين عليها، ما يخلق الأرضية لحالة جديدة من التهميش والعزل في المجتمع وقواعده.
إن استمرار الأسلوب الريعي رهن ببناء علاقات غير متساوية مع المجتمع، وهذا بدوره يمهّد للحروب الأهلية والاستنزاف الأهلي الذي تشهده الدول العربية. فبالنسبة إلى الدولة الريعية، المجتمع مكوّن من عائلات وقبائل وطوائف وديانات وضواحٍ وفئات قديمة وأخرى جديدة، وجبال وسهول. لهذا، فالدولة الريعية في فتراتٍ، تقرّب بعض رجال الأعمال، وفي فترةٍ أخرى تهمّشهم وتقرّب منافسيهم؛ وفي فترات تقرّب القبائل وإذا بها تهمّشها بعد أن تقترب منها عائلات المدن؛ وفي فترات تجد الدولة في الشماليين قاعدةً لها، وفي فترات تقرّب الجنوبيين وتجعلهم أساس النظام؛ وفي فترات تعتمد على العلويين والزيديين والسنة أو الشيعة والمسيحيين؛ وفي أخرى تشجّع نقيضهم من العلمانيين الليبراليين، ثم تجد أنها يجب أن تتفاعل مع فقراء السنة لتضرب أغنياءهم والعكس صحيح. الدولة الريعية تفعل كل هذا عقداً وراء عقد، بلا أدنى اعتبار لخطورة هذه السياسة على المجتمع.
في الدولة الريعية، يصبح التسلّق والتماهي مع مشروع الدولة الشكلي مصدراً للامتيازات بل وللثراء غير المشروع، ويصبح من الطبيعي أن تتكاثر حالة النفاق العلني المصحوبة بالفساد. الناس تبحث عن الامتيازات، مقابل ذلك تؤيد كل سياسة بغض النظر عن مدى كارثيّتها على المدى المتوسط. وهذا يجعل الدولة بلا قرون استشعار حقيقة، فالناس معتادة على التماهي مع أكثر السياسات ضعفاً، تاركةً الدولة لمصيرها.
لهذا تحديداً، يصعب تحقيق توازن في البلدان العربية بين التنمية والحريات، وبين الحقوق والأمن. وهذه الفلسفة بالتحديد، هي التي تنشئ دولة «الولاء» على حساب دولة «الكفاءة»، وتعمّم حالة «الجهل» على حساب حالة «المعرفة»، وهذا يعود ويعمّق هشاشة مؤسسات الدولة وضعف إنتاجيتها، مشعلاً سلسلةً من الحرائق في كل مجال، ما يدفع الدولة الريعية إلى الاعتماد على الحلول الأمنية والتعبير الغاضب، من أجل إطفاء بعض الحرائق التي تعبّر عن نفسها من خلال احتجاجات شعبية وانهيار مؤسسات، وسرقات كبرى وغيرها. إن المفاجآت جزء أساسي من بنية الدولة الريعية.
وتحرص الصيغة الريعية على إهانة من يخالفونها التوجه، بل تصغرهم وتجعل أكثر القوم ركاكةً في مقدّم الهجوم والتعبئة ضد الفئات التي سقطت من رعاية الدولة. سياسة العزل والتصغير والاحتقار وإمكان سحب بساط المواطنة، تتحوّل إلى واحدةٍ من أكثر تعبيرات الدولة الريعية خطورة، وهي بالتالي أحد مكونات الحروب الأهلية الراهنة والقادمة في البلدان العربية. فالفقر ليس أصل المشكلة العربية، بل التهميش والتحقير لكتل اجتماعية في ظل أسلوب فوقي في التعامل مع الأفراد وحقوقهم الأساسية.
الدولة الريعية العربية مشروع للحرب الأهلية في طور التكوين، تلك الحرب قابلة للانفجار عند المنعطفات غير المحسوبة وغير المرئية. فتقريب بعض الفئات مقابل الدعم السياسي، وتحقير من تختلف معهم وتصغيرهم، ذلك كله يعمق الكراهية التي تتحوّل بدورها إلى عصبية منظّمة (وفق المفهوم الخلدوني)، كما في سورية والعراق واليمن وليبيا والصومال، وغيرها من الدول العربية التي تعاني من الأمراض نفسها في فترة ما قبل العصبية. أخطر ما في الدولة الريعية، أنها تهمّش من كان جزءاً من السلطة وفي صلب بنيانها قبل عقد أو عقدين، هذا واضح في الحالة اليمنية (الزيدية) والحالة السورية (فقراء السنة وخصوصاً في درعا وإدلب وغيرهما) وسنّّة العراق وقبل ذلك شيعة العراق، والشيعة في الكثير من الدول العربية، والحالة المصرية وغيرهم في المنطقة العربية. وما أن يحصل هذا التطور، يصبح الدعم الخارجي (إيران مثلاً أو دولة أخرى كحالة «داعش» و»القاعدة» وغيرهما) نتيجة وليس سبباً أساسياً.
على العرب أن يجدوا طريقةً للتخلّص من الشكل الريعي الذي اقترن بالفساد والاحتكار والإهانة، وهذا يتطلّب دولة تقف على مسافة واحدة من كل مواطن، بغضّ النظر عن ماله وطائفته وفكره وموقفه السياسي وجذوره الاجتماعية. يجب تحويل الدول العربية إلى طاقة تطوّر المجتمع، وتساعده على بناء تسويات داخلية وطنية هدفها التعايش في ظل مبادئ التداول على السلطة، واحترام الحقوق، ودمج القوى المهمّشة والناشئة والجديدة. وهذا يتطلّب إعادة الاعتبار إلى مبادئ العدالة الاجتماعية الحقة، وعدم هيمنة الدولة على المجتمع ومفاصله، وفي ظل تحرير الاقتصاد على قواعد عادلة.
إن رسالة الربيع العربي كما برزت عبر الثورات العربية والحراكات السياسية الشبابية من المحيط إلى الخليج، تستحق اعترافاً وتصالحاً واضحاً من النخب العربية الحاكمة، وخصوصاً تلك التي تتشكّل في رأس دول عربية لاتزال فاعلة ومؤثرة كالمملكة العربية السعودية. إن الدولة الريعية التي لم تسقط حتى الآن في وحل الحروب الأهلية، بيدها مفاتيح لنموذج مختلف يمتّن البيت العربي. لابد من فلسفة جديدة للدولة.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 4612 - الخميس 23 أبريل 2015م الموافق 04 رجب 1436هـ
عجيب المقال لامست الجرح
نعم هذا مايحدث في الدول العربية
بالضبط
كأنك تكتب حرفيا عن البحرين.يسلم قلمك يا دكتور.
للاسف
للاسف هذا حال الانسان العربي وتقبله للخضوع والاهانه والتبعيه والنصياع للانظمه بسبب المال والمركز وبعض الامتيازات الحكوميه الخدماتيه من اسكان واراضي وغيرها الكل مكمل بعض الحكومات والانسان لتدمير عقل العربي وانعكاسه علي تطور البلاد العربيه