آنذاك تدهورت علاقات دولة المرابطين مع الخلافة العباسية بعد الحملة الأفرنجية الأولى وصعود حركة الموحدين واتهام الإمام الغزالي بتشجيعها حين قدم إليه محمد بن تومرت إلى بغداد ودرس عليه الفقه الشافعي ثم انتقل إلى المغرب لنشر دعوته مستفيدا من علومه.
استغل ابن تومرت إلتهاء حركة المرابطين بمعاركها الداخلية وانشغالها في صد هجمات الفرنجة على المدن الأندلسية لتأسيس نواة عسكرية صلبة أخذت بمناوشة مواقع المرابطين من خلال شن هجمات سريعة من الجبال المغاربية.
وللرد على تلك الضغوط أجرى أمير الدولة علي بن يوسف جملة تنقلات إدارية في قرطبة وغرناطة والمرية في سنة 505 هجرية (111م) فنظم الحصون والقرى لصد المناوشات المتعددة التي ازدادت في سنة 506 هجرية. وعلى رغم التعديلات في خطط الدفاع استمرت مواقع المرابطين تتعرض إلى هجمات الفرنجة التي ترافقت مع حركات تمرد قامت بها قبيلة زناته المغاربية إلا أن أمير المرابطين نجح في احتوائها والتغلب عليها في سنة 507 هجرية/ 1113م.
في هذه الأجواء المضطربة حاول الفرنجة احتلال قرطبة في سنة 509 هجرية مستغلين الصراع المحلي وبروز قوة حركة الموحدين وبداية ضعف دولة المرابطين فحصلت مواجهات سقط فيها 80 من أمراء المرابطين وكبار الشخصيات وأبرز القادة إلى جملة كبيرة من أهل الأندلس. فأرسل الأمير علي بن يوسف تعزيزات لصد الغزوات فنجح موقتا في وقفها بعد أن سقط «خلق من المسلمين» كما يذكر المراكشي في تاريخه. إلا أن المعارك انفجرت في سنة 510 هجرية (1116م) ونجح المرابطون في صد الهجمات وقاموا بسلسلة ضربات ناجحة وتم تثبيت المواقع الدفاعية في سرقسطة ترافقت مع قيام الأسطول البحري بقيادة محمد بن ميمون بغزوات ناجحة.
إلا أن النجاحات العسكرية كانت محدودة التأثير سياسيا بسبب عنف هجمات الفرنجة التي استهدفت قطع الاتصالات بين المغرب والمشرق. فالخلافة العباسية آنذاك بدأت تمر بأزمات داخلية وكانت بحاجة إلى أسطول المرابطين لصد الغزات الإفرنجية البحرية، بينما كان أمير المرابطين بحاجة إلى قواته لمواجهة الخطرين الداخلي (نمو قوة الموحدين في المغرب) والخارجي (وقف الغارات الإفرنجية على الأندلس).
في هذا الوقت كانت دولة المرابطين انقلبت نهائيا على أفكار الغزالي ومدرسته، ردا على ما قيل عن دعمه لحركة الموحدين حين درس مؤسسها في بغداد. ويذكر المؤرخ ابن القطان في رواية له في كتاب «نظم الجمان» أن الأمير علي بن يوسف أصدر أمرا، بموافقة قاضي قرطبة ابن حمدين، بحرق كتب الإمام الغزالي وخصوصا «إحياء علوم الدين» فأحرق الكتاب على الباب الغربي من رحبة المسجد بحضور جماعة من أعيان الإمارة. ثم وجه إلى كل أمراء المناطق أمرا بإحراق كتاب الإحياء. وتوالى الإحراق على ما اشتري منه في تلك البلاد في سنة 507 هجرية (1113م). ويذكر المراكشي في تاريخه أن «إحراقه كان سببا لزوال ملكهم وانتشار سلكهم». فالمراكشي يربط بين إحراق كتاب الغزالي (الأحياء) وزوال ملك المرابطين وغياب دولتهم.
إلا أن دولة المرابطين لم تسقط بسهولة. فهي نجحت في مقاومة الضغوط لفترة قصيرة عرفت خلالها حالات صعود وهبوط مع ميل متواصل إلى التفكك والانهيار بسبب توزع قوات الأمير علي بن يوسف على جبهتين عسكريتين، واحدة ضد الموحدين وأخرى ضد الفرنجة.
في سنة 511 هجرية (1117م) نفذ حملة على قلمورية (في البرتغال)، عاد بعدها إلى اشبيلية وأجرى سلسلة تنقلات في الجهاز الإداري وقام بتولية ابن رشد (جد ابن رشد الحفيد) خطة القضاء في قرطبة، وموسى بن حماد قضاء غرناطة، ومحمد بن سعيد قضاء المرية، وأبو الحسن شريح بن محمد بن شريح الرعيني قضاء اشبيلية، وتولى يحيى بن غانية (اللمتوني) على مرسية.
لم تسعف إصلاحات الأمير علي في وقف مشاكل دولته في المغرب ولا في منع هجمات الفرنجة. فعلى أثر حملته على قلمورية رد الفرنجة بالضغط على مواقع المرابطين في شمال الأندلس وقاموا بهجمات مباغتة انهارت خلالها بعض المخافر المتقدمة الأمر الذي ساعد على تطويق سرقسطة وإسقاطها في سنة 511 هجرية (1117م).
بسبب قساوة الهجمات اضطر الفيلسوف ابن باجه للنزوح إلى جنوب الأندلس فأقام في المرية ثم انتقل إلى غرناطة فاستوزره والي غرناطة (أبو بكر بن إبراهيم) لفترة قصيرة استغلها لتوسيع اهتماماته الأدبية والشعرية.
وجد ابن باجه نفسه في وضع صعب بسبب عدم قدرته على التوفيق بين مسئولياته الوزارية وانشغالاته المهنية وانصرافه إلى تطوير معارفه الفكرية، فارتحل إلى اشبيلية واستقر هناك. وفي اشبيلية درس الفلسفة الإسلامية وأطلع على الفلسفة اليونانية فأخذ بنشرها والدفاع عنها، فشرح كتاب «السماع الطبيعي» لأرسطو. وكتب أقوال على كتب أرسطو (الآثار العلوية، الكون والفساد، والحيوان، والنبات، والنفس).
إلى التأليف اشتغل بالتدريس وكان من أبرز أصحابه وتلاميذه ابن الإمام (أبو الحسن بن علي) الذي قال عن أستاذه إنه أول من استهل الكتابة الفلسفية في الأندلس، وكان لابن الإمام الفضل في جمع مقالات ورسائل أستاذه الفلسفية، وأقدم لاحقا على نشرها وشرحها وتفسيرها والدفاع عنها.
في هذه الفترة قويت شوكة حركة ابن تومرت (الموحدين) وأخذت منذ العام 514 هجرية (1120م) تهدد نفوذ دولة المرابطين في المغرب الأمر الذي زاد من أهمية ابن باجه الفكرية والفلسفية في الرد على العلماء والفقهاء وخصوصا الإمام الغزالي (الشافعي الأشعري).
تختلف فترة ابن باجه عن مرحلة صاعد الأندلسي وتتشابه في حوادثها من ناحية انعطافاتها الحادة مع مرحلة ابن حزم. فصاعد عاش فترة الانقسام والتفكك المستقر على توازن قوى متضاربة في مصالحها بينما عاصر ابن حزم فترة مضطربة انتقلت فيها الأندلس من عصر الدولة المركزية (الأموية العامرية) عاصمتها قرطبة وتلتها مرحلة «الفتنة الأندلسية» التي انخرط فيها إلى أن انتهت حياته السياسية مع بدء عصر «أمراء الطوائف». وهو عصر شهدت فيه الأندلس انشطار المركزية إلى تعددية أخرجت السلطة من العاصمة وتحولت قرطبة إلى ساحة صراع يتناوب الأمراء بسط نفوذهم عليها.
عايش ابن باجه نهايات ذاك العصر حين اشتد الصراع بين الدويلات وزاد من تشرذم «كونفيديرالية» الطوائف وتنازع مراكز القوى على مناطق النفوذ. والفارق بين المفكرين أن ابن حزم شهد فترة انتقالية قلقة تحولت فيها الأندلس من دولة واحدة تحكمها سلطة مركزية إلى دويلات مستقرة على التنافس بينما عاصر ابن باجه فترة انتقالية معاكسة عادت فيها الأندلس من دويلات طوائف متنافسة إلى دولة واحدة (المرابطون) تحكمها سلطة مركزية، اعتمدت على العلماء والفقهاء في مرحلة صعودها وانقلبت عليهم في مرحلة نزولها.
لعب ابن باجه دوره الفلسفي في تنظير تلك الفترة وانتقاد أفكار الإمام الغزالي، في لحظة اشتد فيها الصراع المرابطي - الموحدي في المغرب معطوفا على خصومات فكرية - فقهية وصلت إلى أعلى درجات توترها.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2492 - الخميس 02 يوليو 2009م الموافق 09 رجب 1430هـ